ليتني لم أكن سوريا

ليس ذنباً أن أكون سوريًّا؛ أطفالي كبقية الأطفال في هذا العالم، يحلمون بمدرسة جميلة ولعبة صغيرة وقليل من الأمن.. لكنهم قضوا أجزاءً ونتفاً تحت الأنقاض وامتلأت شاشات التلفاز بدمائهم وأشلائهم.. أطفالي كأطفالكم ياسادة!

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/25 الساعة 02:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/25 الساعة 02:21 بتوقيت غرينتش

يتوقف طويلاً أمام موظف الجوازات، يتفحص سلوكه ولغة جسده، يعاين مراراً وتكراراً مطابقاً صورة الجواز بصورة الرجل الذي يَمْثُلُ أمامه. تهتز ثقة الموظف بآلة كشف الجوازات المزورة، فيمرر أكثر من مرة الجواز على تلك الآلة.. حسناً الجواز غير مزور.. وقبل أن يضع ختم الدخول الأخير يلقي نظرة أخيرة على ذلك الرجل ليأذن له بالدخول.. إنه السوري صاحب الجواز الملعون في كل مطارات العالم.. هكذا بات العرف الدولي في كل المطارات.

كل اللعنات التي تعرفها قواميس العالم حلَّت على هذا الجواز الأزرق الداكن وعلى هذا الشعب، شبهة ما بعدها شبهة تلاحق السوريين أينما حلوا.. "ياليتني لم أكن سوريا".

يعقدون كل المؤتمرات والندوات الإنسانية وينفق العالم مليارات الدولارات من أجل ذلك السوري الهائم على وجهه، يتباكون، ينسجون روايات الموت والبحار وتلاطم الأمواج، وينتجون الأفلام عن هذا السوري المسكين.. وعند الحدود يركلونني ركلة يتمنون أن تقذفني إلى المجهول.. "ياليتني لم أكن سوريًّا".

تلاحقتني بوارج وأساطيل حلف شمال الأطلسي الجبارة في بحر إيجه، يحاولون ردعي وتخويفي وأنا القادم من "بساط الريح" و"الكيماوي".. وبراميل البارود و"سكاكين النحر"، يظنون أنهم يخيفونني في بحر غدار لكنه أرحم من غدر الأوطان.

يتفرجون على وطني يحترق، يتمزق، ويتآكل بين أهله ويطردونني من كل الأراضي، إلى أن أدخلهم خلسة بعد اختبار البحار.. وكأن لجوئي يجب أن يمر عبر أسماك البحر لأثبت لهم أنني مثلهم أعشق الحياة وهربت من الموت إليهم.. "ياليتني لم أكن سوريا".

يرفضونني بكل أشكالي، طبيباً، مهندساً، بنّاءً، فلاحاً.. وبكل ألواني مهما كنتُ ما دمتُ من بلاد الذبح والنحر والبارود.. اِرحلْ إلى مكان آخر.

أطفالي يعرفون جون كيري وسيرجي لافروف أكثر مما يعرفون شجرة عائلتهم، كيف لا وهم من يرسمون مستقبل أولادي وربما أحفادي.. ينتظر الطفل فيينا وجنيف وعواصم أخرى عل مزاد الدم ينتهي وتزول اللوحة الحمراء.. لكن هيهات هيهات.
أتردد في كل يوم بشراء "كنبة" أو تغيير طاولة مكتبي، ربما تنتهي الأزمة غداً وأشتريها في وطني الذي يتقن صناعة الأثاث، أتعب جدًّا في اختيار مدرسة ولدي الذي هرب منه الوطن إلى غير رجعة، أجهد نفسي في تلقينه أنه سوريا إلى أن يضجر مني ومن ذلك الوطن الوهمي الذي تحول إلى كلمات مجردة.

سكنت الخيمة، عشت الجوع والبرد تجمدت أطرافي على حدود العجوزة أوروبا، بحثاً عن الخلاص، أنظر خلفي ما وراء البحر كان قصة "رومانسية" تحولت إلى جحيم اسمها سوريا.

أصبحت فضيحة في كل الأوطان وعلى كل شاشات التلفزة، مادة دسمة تنهمل من أجلها الدموع "عطفاً" وألماً وتناسوا دموعي الحقيقية غير المزيفة، ارتبط اسمي بالجوع والشتات.. كم هو صعب أن تنام وتصحو وأنت سوريا.

يا ويحهم! علموني أنني ابن أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، وعلموني أنني أقدم أبجدية، علموني أن أجدادي وصلوا الأندلس، وأن سيوفهم حكمت العالم.. واليوم أنا لاجئ أحلم بسقف آمن وجدار لا يخترقه البرد كما الخيمة التي تخونني من أسفلها متآمرة مع البرد.

ليس ذنباً أن أكون سوريًّا؛ أطفالي كبقية الأطفال في هذا العالم، يحلمون بمدرسة جميلة ولعبة صغيرة وقليل من الأمن.. لكنهم قضوا أجزاءً ونتفاً تحت الأنقاض وامتلأت شاشات التلفاز بدمائهم وأشلائهم.. أطفالي كأطفالكم ياسادة؛ أحبهم وأراهم أجمل البشر، أريدهم بشراً كغيرهم لا تحتقروهم واحتقروني.. ربما أنا من يستحق العقاب لأنني قررت الثورة.. أنا وليس أطفالي من ثاروا ودمروا وحلموا بالحرية..

اطردوني أنا وازدروني ما شئتم لكن أطفالي لا يستحقون.. هل هناك أكثر ألماً وقهراً من أن تكون سوريًّا.

أصبحت مرجعية في السياسة، الإستراتيجية، التوازنات الدولية، وبالصراعات الطائفية، كلها مرت على جسدي النحيل.. سلوني عن كل المطامع الاستعمارية والصراعات الدولية والصفقات، فأنا من يحسن الإجابة عليها.. سلني عن النفوذ "ورقعة الشطرنج العظمى" وتحريك البيادق وأسعار النفط وجغرافيا العالم التي خطت أقدامي عليها، كل تلك الأشياء من صنعي.. سلني عما تريد.. لكن أرجوك لا تسلني من أنا؛ ياويلتي!.. ليتني لم أكن سوريًّا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد