زمن الحرب الجميل!

يا جدي كان شهداؤكم مبجلون مقدسون.. اليوم كثر الشهداء في غير ميدانهم .. صاروا قتلى.. لم يعد هناك ما يسمى شهيداً. صرنا أرقاماً تتكاثر وجثثاً يُرمى على أعدادها الدولارات.. ونسيت أن أقول لك شيئاً آخر.. لقد تحولنا إلى كلاب يُرمى لها جيف طعام تملكه وتقبّل يد الذي يعطيها ممتنة له. إننا ببساطة يا جدي العزيز ننتقل من انحدار إلى آخر ورؤوسنا مستمرة في الطأطأة..

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/22 الساعة 04:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/22 الساعة 04:54 بتوقيت غرينتش

لم تكن الحياة في زمن جدي وجدتي أفضل. لقد كانت مختلفة فحسب. كان النهار يبدأ مع صلاة الفجر وقد لا ينتهي بصلاة العشاء. كان جدي رجلاً عسكريًّا.. عنيداً ومتعِباً.. لقد جعلته الخدمة في الجيش الفرنسي واللبناني أباً قاسيًّا صارماً من دون أن تفقده زاوية جمالية لأب آتٍ من الجرد.. وكانت جدتي طيبة جدًّا.. لدرجة تدفعني للقول بأنه لا يوجد رجل على وجه الأرض يستحقها. جدّاي لأمي رحلا. ومعهما رحلت تفاصيل كثيرة لكن ظلت الأفكار الرئيسة التي تناقلتها ألسنة الأبناء ووصلت إليّ.

عاد جدي من عمله ذات يوم مرهَقَاً، مثقلاً بالأفكار الحزينة.. لم يكن رجلاً يسهل التعامل معه.. يخبئ في شخصه قوة غريبة.. إنه رجل لا تهزمه كلمة ولا ينتصر عليه موقف.. وبالرغم من أن الهزيمة هي نتاج للمحاولة التي قد تقود إلى النصر أيضاً، إلا أن جدي لم يكن يعترف بشيء مما يجول في قلبه.. دخل المنزل غاضباً.

كان ذلك في الخامس من يونيو/حزيران عام 1967. جلس إلى مائدة العشاء.. وحوله جدتي وأولادها السبعة.. لم يجرؤ أحد على تناول ربطة الخبز المستكينة في طرف الطاولة.. لم ينبس أحد ببنت شفة.. صرخ جدي طالباً من إبريق الشاي أن يتحرك وحده باتجاهه ويصب نفسه بنفسه في الفنجان! ذهول يظلل المكان.. يعرف الجميع طباع جدي المزعجة لكنه اليوم يبدو أسوأ.. لقد جُنّ.. قال له خالي، الابن الأكبر: خير يا أبو كمال.. مين مزعلك؟ توقف جدي عن الأكل رامياً قطعة الخبز على الطاولة، ثم قال، والقهر يتسرب من شقوق جلده.. وصوته المحتدّ يخفت.. "الهيئة لقمتنا صارت مغمسة بالذلّ.. إسرائيل احتلتنا مرة تانية.. يا ويلنا من الأجيال الجايي شو رح تحكي علينا"..

لقد ربحت إسرائيل جولة جديدة.. وهُزم العرب في يوم النكسة!

غادر جدي البيت، وتقول أمي إن وفاة والدته كان أخفّ وقعاً في نفسه. وعاش البيت حالة من التخبّط في المشاعر والهزيمة المدوّية.. تماماً كما الشارع العربي. لقد احتلت إسرائيل سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة والجولان. عاش الإسرائيليون أياماً من الفرح لم تمر عليهم مثلها حتى في نكبة عام 1948.. وغرق العرب في انكسارهم وخجلهم المقيت..

بيت جدي نكّس أعلامه أيضاً.. لم يعد مسموحاً، لفترة ليست بقليلة، أن يصدح الراديو بأغاني الحبِّ.. وصار استراق مشهد غرامي لعبد الحليم حافظ من المهام الصعبة والمرغوبة.

جدي الذي حارب في الثلاثينيات مع الجيش الفرنسي فيما سمي وقتها بـ"جيش الشرق العربي" الذي شكلته فرنسا إثر انتدابها من قبل عصبة الأمم على لبنان وسوريا.. جدي هذا كان قائداً ميدانيًّا في الجنوب، واسمه بالمناسبة "نصر". لقد ذاق طعم أن يكون مستعمِراً عندما حارب ضد العثمللي.. وذاق طعم أن يكون مستعمَراً عندما ربحت إسرائيل تلك الجولة. ها هو يذوق مرارة الهزيمة مجدداً. ظنّ جدي -مثله مثل كثر في جيله آمنوا بالثورة والنصر- أن نكبة عام 1948، وهي أولى طلائع الهزائم، ستكون الأخيرة وأنهم سيدحرون العدو الإسرائيلي من فلسطين.. وتوالت الأحداث وركبت إسرائيل على ظهر العرب الذين لم يجدوا لهم وظيفة غير الانحناء.

أيام جدي لم تكن أفضل.. كانت مختلفة فحسب ! عندما أستحضر هذا المشهد ومعه تلقائيًّا تلك المشاعر الحزينة أشعر بالغثيان.. هل بالغ جدي وعائلته والشارع العربي كله في ذلك الوقت باكتئاباته؟ هل كان يعرف بعد وفاته بعشر سنوات العدد المهول للانتكاسات التي سيمنى بها العالم العربي؟ انتكاسات ليست على يد إسرائيل، وإن كانت المحرك الخفيّ والمستفيد الأكبر.. انتكاسات على يدنا.. نحن العرب.

لم تكن أيامك يا جدي أفضل.. كانت مختلفة فحسب..! كان وخز الإبرة في أيامكم مؤلم.. واليوم قطع الأعناق في أيامنا مشهد عاديّ يشبه تصفح جريدة إلكترونية. كان الجلوس حول المذياع للاستماع لخطابات عبد الناصر يشبه القتال على الجبهة.. واليوم نشاهد مقاطع فيديو لضحايا الحروب في عالمنا العربي يشكون إلى الله كلَّ من يقتلهم، ولا يتعدى رد فعلنا أكثر من احتساب الأمر إلى رب الكون.

لم تكن أيامك يا جدي أفضل.. كنتم أنتم أفضل.. كانت القلوب صافية تتفاعل مع الأحداث بضمير. كانت الأسرة وطناً والوطن أسرةً. عائلاتنا اليوم مفككة حتى وإن اجتمعت في غرفة واحدة.. كل فرد فيها يفكر في عالم خاص به.. لم يعد هناك من رغبة في التحاور والمشاركة.. لم يعد أحد يرغب في التكاثر العاطفي.. كان الحب للزوجة يعني حب الأرض، واليوم يحب الرجل نساءً كثيرات متمسكاً بدينه تارة ولا دينه تارة أخرى. ويفشل حتماً في الحب، لأنه يحب الجسد لا الروح ويحب بجسده لا بروحه.

مسكين يا جدي لم تكن تملك هاتف آي فون أو سامسونغ.. لم يكن لديك حساب في فيسبوك أو تويتر.. لم يكن بمقدورك أن تغرد ردًّا على موقف لباراك أوباما مثلاً أو أي زعيم عربي لا يعجبك تعجرف كلامه وصفاقة خطابه.. لكن يا جدي كنت تنزل إلى الشارع وتندد أنت وجيرانك وزملاؤك وترفعوا اليافطات.. وقتها كان لثوراتكم معنى أجمل، ولشهدائكم رائحة مختلفة. كنتم تقاتلون من أجل الوطن فقط لا من أجل أزلام من هنا وهناك.

صحيح أن عالمنا العربي شهد بعد رحيلك ما سُمّي بالربيع العربي.. اجتاحت الشوارع تظاهرات كبيرة نجحت في إسقاط أنظمة فاشية.. لكن يا جدي هذه الشعوب تموت من أجل استعمار آخر.. تناضل ضد استعمار مباشر وتعرف أن آخَرَ غَيْرَ مباشرٍ يتقاسم نفطها وخبزها وترضى.. نحن شعوب جائعة يا جدي ولا تعرف ماذا تريد، أما أنتم فكان عدوّكم واحداً وتعرفون ماذا تريدون.

قد يعيد التاريخ نفسه.. بهزائمه وانتصاراته وأفراحه وآلامه.. بولادة عظماء له وسفهاء أيضاً.. لكن الذي لن يعيد نفسه هو المشاعر. لقد تغيرنا.. وهذه حقيقة لا مفر منها. نحن لم نعد كما كنا.. ولم تعد الأحداث تؤثر فينا، وبالتالي لم نعد قادرين على الثورة الحقيقية. نعم، حاولنا أن نثور.. حاولنا أن نكرّر التاريخ لربما ننجح فيما فشلتم فيه أنتم.. لكن نكستنا اليوم أعظم بكثير. نحن يقتلنا زعماؤنا.. إنهم أعداؤنا الحقيقيون. نواجه أكثر من عدو ونحارب على جبهات عدة وكل منّا يحارب نفسه أيضاً.. لقد أدخلنا قاداتنا في حروب نفسية واجتماعية كريهة ثم دفعوا بنا إلى الجبهات فوصلناها لا نعرف إلى أين نوجه السلاح.. وإذا صوبناه لا ندري بقرارة أنفسنا إن كان موجهاً لعدونا الحقيقي أم عدو صديقنا الذي يتفرج من بعيد.

يا جدي كان شهداؤكم مبجلون مقدسون.. اليوم كثر الشهداء في غير ميدانهم .. صاروا قتلى.. لم يعد هناك ما يسمى شهيداً. صرنا أرقاماً تتكاثر وجثثاً يُرمى على أعدادها الدولارات.. ونسيت أن أقول لك شيئاً آخر.. لقد تحولنا إلى كلاب يُرمى لها جيف طعام تملكه وتقبّل يد الذي يعطيها ممتنة له. إننا ببساطة يا جدي العزيز ننتقل من انحدار إلى آخر ورؤوسنا مستمرة في الطأطأة..
إنها قربك.. هل تراها؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد