أعيدوا الأمل للتّونسيّين

في تونس أعتقد أنّ القدر ما زال مبتسماً، وأنّ بإمكان الشباب التعافي من خيبته، وتحمّل المسؤوليّة بنفسه ليعيد الأمل للتونسيّين بأنّ مستقبلهم ما زال بأيديهم، وأنّنا أيضا قادرون.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/22 الساعة 05:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/22 الساعة 05:06 بتوقيت غرينتش

كان نجاح الثورة التونسية في الإطاحة ببن علي لحظة انفجر عندها التونسيّون أملاً في تغيير حقيقيّ يطال معاشهم ويضعهم على طريق الخروج من معاناتهم التي ورثتها أجيال من بعد أخرى تحت استبداد حزب الدّستور ومن فيه وحوله من اللّصوص طيلة عقود.

ابتسمت إرادة التّونسيّين في الحياة للقدر، فاستجاب وابتسم بدوره للطّبقة السياسيّة التونسيّة المضطهدة، واهبا إيّاها مناخاً سياسيًّا حرًّا، ديمقراطيًّا، يطيب فيه العمل والنضال والثّأر من سنوات حرمتها وحرمت الناس من خدماتها وأفكارها وبرامجها، استجابة لنداء التغيير، ووفاء لمشاغلهم البسيطة كبساطة أصحابها.

خمس سنوات من الثورة التونسية التي أشرعت أبواب الأمل لدى أكثر من شعب حول العالم، لا في الوطن العربيّ وحده، وضعت التّونسيين على رأس قائمة الشعوب الأكثر تعاسة في العالم حسب "مؤشّر البؤس" لسنة 2014. لم يدر القدر ظهره للتونسيّين ولكنّ السياسة أدارت لهم ظهرها، واختفى وجه القدر المبتسم خلف غبار معاركها المعزولة عن مشاغلهم.

فجّر موت الشاب التونسي رضا اليحياوي صعقاً بالكهرباء في جهة القصرين يوم 16 يناير/كانون الثاني الفارط بعد صعوده على عمود كهربائي مهدّدا بإلقاء نفسه احتجاجاً على شطب اسمه من قائمة للتشغيل، موجة احتجاجات اجتماعيّة واسعة شملت مناطق عديدة من شمال تونس إلى جنوبها رافعة من جديد شعارات الثورة التونسية المتعلّقة بالتشغيل والتنمية والعدالة الاجتماعية، وما زالت هذه الحركة الاجتماعيّة مستمرة في شكل اعتصامات مفتوحة وإضرابات عن الطّعام في جهة القصرين وغيرها من المناطق في ظلّ غياب لأيّ تعاط سياسي جدّي معها.

عبّرت الاحتجاجات الأخيرة، بوضوح، عن حجم الاحتقان الذي تختزنه قطاعات واسعة من التونسييّن، ولا سيّما الشباب، إزاء مآلات العمليّة السياسيّة بعد مرور خمس سنوات من الثورة ازدادت خلالها عديد الملفات كالبطالة تعقيدا، ولم ينل التونسيّون منها سوى وعود كثيرة تجني بها الأحزاب أصواتهم لتتحوّل بمجرّد انتهاء الانتخابات إلى مواعظ عن الصّبر والتفهّم، "فالحكومة لا تملك عصا سحريّة" لتحقيقها.

كشفت هذه الأحداث عن بداية تحوّل حالة السّخط والتذمّر لدى التونسيّين إلى حالة احتجاجيّة غاضبة تلجأ من جديد للاعتماد على الشّارع بشكل عفوي وترفض كلّ أشكال التأطير الحزبي والسياسي، أو لاستعمال أشكال احتجاج قصوى كالإضراب عن الطّعام أو التهديد بالانتحار. لقد دلّت هذه النّزعة عن مدى اتّساع الفجوة بين مشاغل التونسيّين الملحّة والفضاء السياسي الذي يعاني الجمود ويراكم، منذ سنوات، عجزه عن التعديل الذاتي للاستجابة لتطلّعات النّاس وإحداث التّغيير، ووضعت الطّبقة السياسيّة التونسيّة أمام حقيقة مخيفة: أنّ ثقة التونسيّين في قدرة "السّياسة" على حلّ مشاكلهم، مهتزّة إلى حدّ بعيد، ومنتفية في كثير من الأحيان.

لم تغيّر الأحداث الأخيرة كثيراً في المنحى السلبي الذي يحكم ثقة التونسيّين في الفضاء السياسي. فباستثناء تصريحات ومواقف قيادات أحزاب الائتلاف الحاكم المعترفة بشرعيّة المطالب المرفوعة وضرورة إيجاد الحلول، غابت من جهة السّلطة أيّ مبادرة سياسيّة جديّة يمكن أن تمتصّ الغضب المتنامي وتصحّح المسار في اتّجاه القضايا الملحّة، كلّ ما قدّمه رئيس الحكومة للتونسيّين هو الدّفاع عن حكومته بلسان خشبيّ قديم، ومحاولة القفز على المشكل وتشويه الاحتجاجات بربطها ببعض أعمال العنف والنهب التي حدثت على هامشها في غياب ملحوظ للأجهزة الأمنيّة، وفي أحسن الأحوال، اتّخاذ إجراءات مثيرة للسخرية كالزيادة في حصّة التجنيد للشّباب دون أيّ تغيير على مستوى السّياسات والتوجهات الكبرى للحكومة.

من جهتها، كانت المعارضة التونسية وفيّة لتقاليدها في الاكتفاء بالاحتجاج والاستعراضات الخطابيّة، دون أن ترى من واجبها الاجتهاد والمبادرة لتحويل حالة الغضب في الشّارع إلى مطالب سياسيّة واضحة يتمّ الضغط من أجل إقرارها. كانت هذه الأزمة فرصة جديدة أكّدت من خلالها الطّبقة السياسيّة للشّارع التونسيّ عقمها ومحدوديّتها، وزادته خيبة وإحباطاً.

لقد ولّد المسار السياسي التونسي بعد الثورة حالة متصاعدة من الإحباط وتراجع الثقة في المشهد السياسي الحالي ومدى قدرته على التعبير عن تطلّعاتهم، وهو ما أكّده تقرير حول تونس صدر في بداية شهر يناير/كانون الثاني 2016 عن جامعة ماريلاند الأميركيّة أشار إلى أنّ 78 بالمائة من التونسيّين لا يثقون في الأحزاب السياسيّة. لدى الشّباب، سجّل تقرير صادر سنة 2014 عن البنك الدّولي تحت عنوان "إزالة الحواجز أمام إشراك الشباب" أنّ أكثر من 91 بالمائة من شباب الأرياف وحوالي 70 بالمائة من شباب المدن لا يثقون في المؤسّسات السياسيّة.

انعدام ثقة التونسيّين في السياسيين وفي جدوى العمل السياسي ولجوؤهم للتعبيرات القصوى، ليس أمراً مفرحاً أو مريحاً على الإطلاق. فتطوّر هذه الحالة له نتيجة واحدة: انعدام مزمن للاستقرار في تونس يعزّز، ربّما، موقف تيّارات العنف والإرهاب، ويقوّض، بالضرورة، كلّ أمل في البناء والتغيير. يحتاج التّونسيّون اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، لاستعادة الثقة في جدوى الرّهان على التغيير عن طريق الديمقراطيّة والعمل السّياسيّ، ولمن يترجم غضبهم إلى برنامج عمل واضح يحمل تطلّعاتهم للفضاء السياسي ومؤسسات الحكم.

لكن، لا يبدو أنّ المشهد السياسي بتركيبته الحاليّة يمكن أن يرمّم علاقته بالتونسيّين ويؤدّي هذه المهمّة، لأربعة أسباب رئيسيّة:


1- تحوّل القوى السّياسيّة الكبرى إلى قوى سياسيّة محافظة غير مستعدّة لخوض معركة التغيير العميق الذي نادت به ثورة 2011.
2- كلّ محاولات إعادة تشكيل المشهد السياسي من داخله هي عمليّات إعادة تموقع تقودها قوى وزعامات سياسيّة أسقطتها صناديق الاقتراع بعد أن كانت مكوّناً رئيسيًّا من مشهد ما بعد الثورة، ومن الخطأ الرّهان على صعودها مجدَّداً.
3- الطّبيعة الزعاماتيّة للأحزاب السياسية التونسية تجعلها عاجزة عن التحوّل لأحزاب مؤسّسات وبالتالي عن التجدّد، لعدم امتلاكها آليّات التطوّر الدّاخلي، لا سيّما شروط الاندماج وفرص التأثير التي توفرّها للوافدين عليها، وهو ما يعيق التحوّلات الملموسة على مستوى برامجها وأدائها السّياسي.
4 – أنّه لا يمكن للعقول السياسيّة ذاتها أن تكون سبباً في كسر الثقة ثم في إعادة بنائها في نفس الوقت.

أمام هذا المشهد، يمكن القول إنّ السّبيل الأجدى المتاح لإعادة ثقة التونسيّين في العمليّة السياسيّة وفي قدرتها على تغيير واقعهم، هو توسيع المشهد السياسي الحالي من خارجه ببناء قوّة، أو قوى، سياسيّة جديدة تحمل على عاتقها مهمّة التغيير وتلامس المعاش اليومي للتونسيين بشكل مباشر وفق برنامج جديّ قابل للتنفيذ وخطاب مغاير وعقل سياسيّ مجدّد وإرادة حيّة. يحتاج المشهد التونسي لنشأة جيل جديد من السياسيّين، يجمع حوله كلّ الطّاقات والكفاءات التونسيّة التي يهمّشها المشهد السياسي التقليدي، ويحسن توظيف ما لدى الشّباب التونسي من الطّاقة والإمكانات المعرفيّة والقدرة على إبداع نماذج جديدة للنّجاح والتقدّم وعلى مواكبة وفهم التطوّرات على المستويين الوطني والعالمي.

إنّ المميزات التي يتمتّع بها الشباب التونسي، ومعايشتهم المباشرة لمشاكل التونسيين، وخلوّ أذهانهم من القوالب الأيديولوجية الجاهزة، يعزّز قدرتهم على العمل المشترك والتأسيس لمشروع سياسي جديد يتجاوز التناقضات التي تعانيها النّخب التقليديّة ويركّز على القضايا الحقيقيّة، بأولويّات واضحة وخطاب سياسيّ مختلف ونجاعة أكبر في التّواصل، لا سيّما عبر وسائل الاتّصال الحديثة. خَلق كيان سياسيّ بنخبة شابّة تعبّر عن نفسها بنفسها وتنافس الطّبقة السياسيّة التقليديّة على تمثيل التّونسيّين في مؤسّسات السّلطة، سوف ينفخ الرّوح في مشروع التّغيير الذي نادت به الثورة ويمنحه الحيويّة والاستمرارية.

لا معنى أن يبقى الشباب التونسي الذي أسقط أحد أطغى طغاة زمانه، وأعاد الأمل لشعوب كثيرة عبر العالم، رهيناً إمّا لشعوره بالإحباط، أو لانتظار معجزة تطرأ على أداء النّخب القديمة، فيما تتراكم معاناة التونسيّين وتزداد مشاكلهم تعقيداً.

لا شيء يحول بين الشباب التونسي وبين الطّريق الذي اختاره نظيره الإسباني الذي نجح من خلال بناء حزب "بوديموس" (قادرون) في تحويل احتجاجات 15 مايو/أيار 2011 إلى مشروع سياسي جدّي انتزع مكانه في البرلمان الإسباني بين أحزاب سياسيّة عريقة تتداول على السّلطة منذ عقود. شباب "بوديموس" هم اليوم القوّة السياسيّة الثالثة في البرلمان الإسباني ببرنامج عبّر عن تطلّعات قطاعات واسعة من الشعب الإسباني لم يستوعبها المشهد السياسي التقليدي هناك. لقد ألهم الشباب التونسيّ، بثورته، شباب إسبانيا أنّ الشارع ينبغي أن يفرض التغيير بنفسه حينما تعجز المؤسّسات السياسيّة عن ذلك. واليوم يعلّمنا الشّباب الإسباني أنّ التغيير لا يمكن أن يتحقّق إذا لم تتحوّل حركة الشارع من حالة احتجاج إلى حالة سياسيّة منظّمة تطرق أبواب المؤسّسات وتقتحم على السّياسيّين فضاءهم.

في تونس أعتقد أنّ القدر ما زال مبتسماً، وأنّ بإمكان الشباب التعافي من خيبته، وتحمّل المسؤوليّة بنفسه ليعيد الأمل للتونسيّين بأنّ مستقبلهم ما زال بأيديهم، وأنّنا أيضا قادرون.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد