محمود درويش، "في حضرة الغياب".
من الطبيعي أن يحنّ المرء إلى خبز أمّه، وقهوة أمّه، ولمسة أمّه -كما ينشد مارسيل خليفة- أو إلى منزل الطفولة، أو أمكنة تكتنز ذكرياته، أو إلى حضن حبيب، أو إلى صداقات تبدّدت بفعل ظروف الحياة.
ولكن أن يحنّ المرء إلى ما كان السبب الأساسي في تعاسته وفي التشرذم والموت العبثي الذي أصاب بلده لسنوات خلت، فهو ما يستعصي على الفهم، وما يدعو إلى الحيرة والاشمئزاز.
يبدو أنّه غابت عن محمود درويش، وهو الذي سبر بأبياته أعماق النوستالجيا الإنسانيّة وتعقيداتها، ظاهرة الحنين المنحرف التي تتفشّى حاليًّا في لبنان. ذلك ربّما لأنّ هذا النوع من النوستالجيا الذهانيّة، والحنين المَرَضي لخطوط التماس الطائفي السابقة في لبنان، أي بين مسلميه ومسيحيّيه، لا مكان له في دواوين الجمال والأمل، ولا حتّى على صفحات العلوم السياسية، بل محلّه محفوظ في كتب علوم المركّبات النفسيّة والعقد العصبيّة.
فها هي أصوات تتعالى من هذا المعسكر (8 آذار) وخصوصاً من ذاك (14 آذار)، من الحزبيّين والمناصرين، لا سيّما على صفحات التواصل الاجتماعي، متلحّفة بذريعة الاختلاف حول المرشحين للانتخابات الرئاسية، لكي تدعو وبشراسة إلى فضّ التحالفات العابرة للطوائف، والعودة إلى التقوقعات القديمة المتمثّلة بتحالفات "أصفى" طائفيًّا.
فكأنّ الانقسام القديم (مسلم/ مسيحي)، في ذهن من يحنّ إليه من الطرفين، يبقى هو الانقسام الحقيقي والأصلي لأنّه "الأنقى" طائفيًّا، وأنَّ كلَّ أنواع الانقسامات الأخرى التي تلته، لا سيّما بين كتلتي 8 و14 آذار المختلطتين طائفيًّا إلى حدّ ما، ليست إلّا انقسامات مزوّرة أو "تقليداً".
بكلام آخر، وكأنّ نوعيّة العفن الذهني للانغلاق المتأتّي عن الانقسام القديم هي الأفضل والأجود، لأنّ رائحتها تبقى أصدق كراهية، لا بل الأنبل و"الأكلَس" لأنّ مذاقها يظلّ أكثر روكفوريّة (بالنسبة إلى الجبن الفرنسي الفاخر ذي النكهة العفنة الحادّة).
باختصار، الانقسام حول الانقسام، هذا هو عنوان المرحلة. إذ ها هي أدبيات الانشطار القديم، التي كنّا اعتقدنا، ولو بشيء من السذاجة ربّما، أنّها دفنت وولّت إلى غير رجعة، ها هي تطفو على السطح مجدّداً.
فمن حساسية مفرطة ضدّ أدنى تذكير بعروبة لبنان المرسّخة دستوريا تبعاً لاتّفاق الطائف (الخطاب الأخير لرئيس الحكومة السابق، سعد الحريري) إلى رفض أي انتقاد ومصارحة ديمقراطيّة -ولو كانت غير موّفقة- من قبل حليف سياسي، والذهاب إلى حدّ اعتبارها إهانة كبرى تستوجب الاستسماح والتذلّل بطلب المغفرة، مروراً بمروحة واسعة من المبالغة في التظلّم من الغبن المصحوب بالتهديد بالتقسيم والفدرالية -حتّى دون الحاجة لتغطية ذلك بمسمّى اللامركزية الموسّعة بعد الآن- في حال لم تلبِّ المطالب (حتّى ولو أغلبها محقّة)، بالإضافة إلى عدم القبول إلّا بمشاركة محدودة جدًّا من قبل الطوائف الأخرى في اختيار رئيس "قوي" للجمهورية، يترسّخ تدريجيًّا شعور عامٌّ، بناء على كلّ ذلك (وهو غيض من فيض)، مؤدّاه أنّ مفهوم الشراكة عند البعض يبدو أنّه لا يتحقّق إلّا بالعودة إلى امتيازات ما قبل الـ1975، والتي كانت من الأسباب الأساسية في اندلاع الحرب اللبنانيّة.
كما أنّ ردّة الفعل الطائفيّة ضدّ جريمة قتل المواطن مارسيلينو زماطا طعناً، والتي حصلت مؤخّرا في الأشرفيّة على مرأى من خطيبته ومن المارّة، مع ما رافقها من عودة البعض إلى نغمة المطالبة بالأمن الذاتي، ليست إلّا أمثلة إضافيّة على التشنّج الحاصل والحنين إلى خطاب وممارسات لم تجلب يوما إلّا المزيد من المشاكل لمردّديها، لا سيّما أنّهم يتناسون أنّ هذه الجريمة، رغم بشاعتها الشديدة، تبقى في المفهوم القانوني (المادة 37 وما بعدها من قانون العقوبات) من "الجرائم العاديّة"، أي ليست "جريمة ذات طابع سياسي"، وأنّ هذا النوع من الجرائم لا يستهدف مواطنين من طوائف معيّنة دون سواها، أو مناطق لبنانية معيّنة دون غيرها.
في المقابل، إنّ بعض الممارسات الفئوية، لا سيّما في التعيينات الإداريّة -كالبَلْبَلَة التي حصلت مؤخّرا في وزارة الماليّة- أو في انتقاء خصم كمرشّح للانتخابات الرئاسية دون العودة إلى الحليف -لا سيّما وأنّ الهوية الطائفية لرئيس الجمهورية كانت تحتّم واقعيًّا مثل هذا التشاور المسبق- بالإضافة إلى التعنّت في عرقلة إقرار قانون عادل ومنصف للانتخابات النيابية يؤمّن صحّة التمثيل، ناهيك عن الترويكا المستجدّة وما شاكلها من تركيبات سلطويّة سابقة (كالاتّفاق الرباعي) التي تستأثر طائفيًّا بالقرار السياسي والإداري في البلد، كلّها تشكّل خروقاً يومية استعلائيّة لاتّفاق الطائف ولمبدأ المناصفة الذي أقرّه.
ولكن لا يمكن، ولا بأي حال من الأحوال، أن تشكّل التكتّلات الطائفية الجواب الصحيح، أو الحلّ الناجع لهذه المشاكل عند الطرفين، بل سوف تزيد الطين بلّة. فليس من المنطق في شيء أن تكون حركة الصفائح التكتونيّة الطائفية في لبنان بعكس مجرى التاريخ، أي أن تتبدّل مواقعها من حول فالق يبقى، على علله الكثيرة، عابراً للطوائف بين 8 و14 مارس/آذار، لكي تعود إلى الأخدود الإسلامي/المسيحي الأعظم.
أمّا المراهنة على تغييرات في الإقليم يمكن أن تصبّ في مصلحة هذه التقوقعات الطائفيّة فليست، كما لم تكن يوماً، صائبة لا في حقّ لبنان ككيان نهائي، ولا حتّى في حقّ خصوصيّة أي من طوائفه، لأنّ مراهنة كتلك تضع البلد وطوائفه في عين عاصفة عاتية لا قدرة لأحد في لبنان على مجاراتها.
ولكن تبقى المواساة في أصوات العقل التي ترتفع، لا سيّما بين القيادات السياسية، في خضمّ التحوّلات الطائفية الجارية في تضاريس السياسة اللبنانية، والتي تجهد في أحلك الظروف لرأب الصدع، والحدّ من التشرذم الطائفي القديم/الجديد الزاحف.
فرغم كلّ الحنين المَرَضي إلى الجرح الطائفي القديم، يبدو أنّه، كما تُردّد فيروز، "ما زال بين تلال الحنين، وناس الحنين، مكان لنا"..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.