تصبح على خير يا بحر، قلتها بعد حمام دافئ وأنا أغلق باب الشرفة في غرفتي بالدور الثاني بحي الإبراهيمية ، ثم لجأت إلى سريري ، كوب شاي عن يساري ، وكتاب عن يميني ، ومذياع صغير بين يدي أدير مؤشره بحثا عن المحطة التي أقترب موعد نشرتها الإخبارية ، وعند سماعي الخبر المقصود ، عزمت على الهروب صباحا من الأسكندرية إلى أسوان ثم السودان ، أما كيف فلا أعرف ، ولكن ما من سبيل سوى ذلك.
رغم حبي للقراءة إلا أنني أحسم أموري أحيانا بالطريقة "البلدي" ، بعيدا عن فلسفات الأفكار وضجيجها ، ولقد قلت بيني وبين نفسي وبعد أن ضقت ذرعا بما يجري ، إن الله عز وجل أرسل جبريل إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد عاني النبي ما عاني قبل الرسالة تفكرا وبحثا ، وبعد الرسالة جهادا وتحملا لأذى الذين حاربوه ، ثم تحمل أصحابه ما تحملوا ، ثم تحملت أجيال أخرى متعاقبة على مدى هذه القرون ما تحملت حتى يصل إلينا الإسلام بقيمه العليا ، فهل تليق هذه القيم العليا بما يجري الآن من هجوم على الحفلات الطلابية في الجامعة ، أوتخريب لسيارة عميد الكلية ، أوما شابه ذلك من أعمال صبيانية.
وهكذا وكما تركت منظمة الشباب الأشتراكي وأفكارها وتركت غيرها ، تركت كذلك الجماعة الإسلامية ، هذا الكيان الطلابي الفضفاض الذي كان يضم ألوانا شتى من الشباب والشابات المتدينين ، لا صفة تنظيمية ، ولا فكر محدد سوى العودة إلى دين الله ، وعشت لاحقا أياما سعيدة وأنا أرى أنني كنت على حق تماما حين أتخذت قراري هذا قبل ما يزيد عن خمسة وثلاثين عاما من الآن.
مر الزمن ولأني أعلم أن الأمن لدينا لا يغفر الذنوب أبدا ، فقد قدرت أن الأذى سوف يصيبني إذا أصاب التيار الإسلامي إثر مقتل السادات يوم السادس من أكتوبر عام واحد وثمانين ، وهكذا تحريت أن أسمع نشرة أخبار الحادية عشر في هذا المساء من وقفة عيد الأضحى المبارك ، السابع من أكتوبر ، وبعد يوم من مقتل السادات ، فلما بدأت الإشارة بالفعل إلى تورط التيار الإسلامي في الإغتيال ، أدركت أنه حان وقت الهرب ، غير أن النوم – منه لله – كان يغالبني ، فقررت أن أستجيب له في الحال على أن أستيقظ مبكرا لأبدأ رحلة هروبي.
بالفعل أستيقظت مبكرا، حوالي الرابعة صباحا، ولكن على رجال الأمن وهم يداهمون حجرتي التي أستأجرها من سيدة عجوز تؤجر غرف شقتها الثلاث وتعيش في الرابعة ، دخل الغرفة شرطي عابس الوجه برفقة ضابطين من أمن الدولة، هما أثنان من أصل ثلاث ضباط كانوا معنيين في الأسكندرية بالنشاط الديني حينها، وقد كانا مهذبين للغاية معي ، جلست على سريري وقد تلبستني حالة من الطمأنينة غير عادية بعد ليلة سابقة كنت أستيقظ فيها رعبا على صوت أي شخص خارج الشقة يصعد أو يهبط على السلم مخافة أن يكون من رجال الأمن.
أردت أن أن أدع الضابطين يقومان بمهمتهما في التفتيش بهدوء وأن أنصرف أنا إلى الحمام لأعد نفسي، لكن الضابط عصام قال لي حازما ، لا تنصرف ، أبق هنا حتى ننهي التفتيش ، فيما ظل الشرطي خارج غرفتي ، بحثا الضابطان كثيرا ولم يجدا في غرفتي شيئا إلا فيلم عمر المختار ، ثم سمحا لي بالتوجه إلى الحمام فأنصرفت وسط دهشتهم لهدوئي الشديد ، غسلت أسناني وتوضأت ولبست ملابس نظيفة ومكواة ، ثم عدت إلى الغرفة ففتحت حقيبتي ووضعت بها كل ما وقعت عليه يداي من الملابس ، بادر الضابط فرج إلى القول لم كل ذلك ، إنها خمس دقائق للتحقيق ثم تعود ، فضحكت فضحكا ، ثم تعطرت – أي والله تعطرت – وشعرت حينها أن صبرهم قد نفذ.
عند الباب كانت السيدة العجوز تقف لتقول لي وكأنها تبرئ نفسها أمامهم "مش قلتلك بلاش "، وكأني بالفعل أرتكبت جرما ، كظمت غيظي مرغما وأنصرفت مع الموكب إلى السيارة الصغيرة التي كانت في إنتظارنا، قال عصام مازحا هل تعرف أن السائق على اسم والدك طه أيضا، وهو الذي دلنا على بيتك، قلت له لا بأس، فلينتقم الله منه وإذا أصابني مكروه فليره في أولاده، ندمت لاحقا على ما ذكرته بخصوص أولاده.
أدخلوني قسم شرطة الإبراهيمية بجانب مسجد عمر بن الخطاب الذي كنت أصلي به دائما، قال لي عصام سوف نتركك لوقت قصير ونعود، كانوا في الحقيقة في طريقهم إلى صديقي مصطفى الذي لم يكن موجودا في بيته حينها فلم يعتقلوه، لكنه لحق بنا بعد عدة أيام.
بعد قليل عادوا، ثم أصطحبوني إلى السيارة مرة أخرى التي نقلتنا إلى مديرية أمن الأسكندرية، عصام واصل تعامله اللطيف والرقيق للغاية ، سلمني إلى الشاويش أو الظابط هناك، في الحقيقة لا أستطيع أن أفرق في الرتب، ووصاه علي، ثم عاد وقال لي هل تحتاج شيئا، هل تريد مالا، هل ينقصك أي شئ ، هل بوسعي مساعدتك في أي أمر ، قلت له شكرا جزيلا غير أني نسيت مصحفي ، فابتسم كأنه يعتذر عن تلبية طلبي وأنصرف.
جلست على المقعد أمام الظابط الذي كان مشغولا بالكتابة، ووضعت ساقا على ساق بإعتزاز، نعم فأنا سجين سياسي، أنتهى الرجل من أوراقه ثم نظر لي وصرخ "قوم يا واد"، أطعت الأمر وسرت وراءه وورائي جنديان، كان القسم يغسل بالماء غسلا، وكل شئ فيه يلمع ونظيف للغاية، لكنه فتح بابا نقلني إلى عالم آخر تماما تحت الأرض.
نزلت السلم طويلا متعثرا في العتمة ، حتى وصلت إلى المنتهى المظلم ، كانت الزنزانة في مواجهتنا ، ثم ممر على جانبه مجموعة من الزنازين ، ، صرير الباب وهو يفتح كفيل بأن يبث في أوصالي كل الرعب ، دفعوا بي إلى الداخل واغلقوا الباب وانصرفوا ، أعلى الزنزانة الضيقة طاقة صغيرة بقضبان حديدية تدرك بها كم أنت بعيد عن الأرض ، رطوبة خانقة ، ثم أربعة رجال ينامون على بطونهم ، ولا يرتدون سوى ملابسهم الداخلية ، وقفت مندهشا وأنا ممسك بحقيبتي ، قلت في نفسي "يااه الأخوة بسرعة تنازلوا كده وقلعوا بالطريقة دي بسبب شوية حر"
ظللت واقفا لبرهة لا أعرف ماذا علي أن أفعل ، ولا أين يمكن أن أجلس ، وقد هالتني الرائحة المنبعثة من الحمام الذي لا باب له ، فيما طفحه ممتد إلى الزنزانة نفسها والفضلات تتناثر على أرضيته ، والحر والرطوية لا يطاقان ، بعد برهة تحرك أحدهم وأفسح لي مجالا ، وبتفرس وجهه أدركت أنني سجين مع مجموعة من المجرمين الجنائيين.
ما أن أشرقت الشمس حتى سمعت ضجيجا بالخارج بما يوحي بوصول مساجين أو معتقلين جدد، فتح باب الزنزانة وأخرجوني ليدخلوني أخرى لأجد أربعة منهم صديقي العزيز أحمد النحاس ، تعرفنا وتصافحنا وضحكنا وكأننا نلتقي في ناد ، كانت الزنزانة الجديدة كبيرة ، مما أغرى بعض الفئران باللهو ، فأتفقنا على أن أربعتنا ينامون على الأرض وخامسنا يهش الفئران ، غير أن الإتفاقية لم ترح السجان الواقف علي بابنا ، فصرخ فينا أن نقف جميعا ولا نجلس مطلقا ، وذلك بصحبة ما لذ وطاب من الألفاظ التي يعاقب عليها القانون فيما تجاهل شركاءنا الفئران.
مرت حوالي ساعتان ، ثم فتح باب الزنزانة ، وأخرجنا جميعا بصحبة أضعاف عددنا من المخبرين ، ودفع بنا إلى الأعلى ومن ثم إلى باب مديرية الأمن ، حيث رأينا حشودا وإضطرابا وسيارات للترحيل فأدركنا أننا سننقل إلى السجن.
كان المخبر يعصر ذراعي عصرا مخافة أن أهرب ، وكيف لي وسط هذه الحشود ، الحقيقة كنا جميعا نبتسم ، لقد شعرنا كما لو أننا نعيش مشهدا في فيلم سينمائي ، أو أننا لم نكن نقدر أنفسنا أننا بهذه الأهمية فيما هؤلاء يدركون ذلك ، وإلا فانظر إلى كل ما يجري أمامك.
صعد بنا إلى الشاحنة وفي الطريق توقفنا لتنضم إلينا نخبة أخرى ، كانت من تيار اليسار ، وفهمت أن الأعتقالات تشمل الجميع ، ثم بدأت شاحنتنا تشق طريقها في شوارع الأسكندرية ، تلك المدينة الجميلة التي أحبها ، لكنها اليوم لها شكل مختلف تماما ، ظننا للوهلة الأولى أننا سننقل إلى سجن الحضرة بالأسكندرية لكن السيارة شقت طريقها خارج المدينة.
لم نكن عددا كبيرا ولم تكن هناك أساور من حديد تطوق أيادينا ، لكن السائق تعامل كما لو أنه يحمل شحنة من الأجولة ، فكنا نتخبط في السيارة بشكل عشوائي ومؤلم عند المنحنيات أو عند أضطراراه لاستخدام الفرامل ، سرحت في عائلتي ، أظن أنها مازالت تنتظر قدومي ، كما تعودنا في العيد ، أصلي في ستاد الجامعة بالأسكندرية الذي يتحول وكل الشوارع الى مصلي ضخم ، ثم أتوجه إلى عائلتي في طنطا.
لاحقا علمت أنه في نفس الوقت الذي ألقى فيه القبض عليَّ، كان رجال الأمن يتجهون إلى بيت عائلتي، طرقوا الباب ففتح لهم والدي رحمه الله ، ويبدو أن عائلتي كانت أيضا محظوظة مثلي في رجال الأمن، فقد سأل الضابط والدي بأدب شديد عني، فأخبرهم أنني لست موجودا، فانصرف ، لكنه عاد مسرعا وبنفس الأدب طلب من الوالد أن يسمح له بتفتيش البيت ففعل للتأكد من عدم وجودي ، ثم أنصرف معتذرا وشاكرا.
ما للقاهرة تبدو هكذا، الناس تعيش العيد، الأطفال والمراجيح والأغاني والزينة ، كنا نرقب المشهد من خلف الكوات المغطاة بالأسلاك في السيارة ونحن نحاول أن نتماسك وسط الحركة العابثة للسائق، لم يتوقف الزمن إذن، لم تتجمد الحياة، وكأن ما من مصاب جلل وقع اليوم لنا.
توقفت سيارة الترحيلات أمام سجن طرة ، كنا نرغب في الخروج من الشاحنة بأي طريقة ، لكننا بقينا فترة طويلة ، تابعنا خلالها المشاحنات الدائرة بين الضابط الذي كان معنا والضباط الذين يقفون عند بوابة السجن ، ثم عرفنا أن السجن كامل العدد لا يحتمل زيادة ، تحركت شاحنتنا لاحقا فيما لم يتوقف الزملاء عن إطلاق النكات ، "كان يجب الأتصال والحجز قبل القدوم مباشرة" قال أحدهم .
وقفت مكتبئا أمام السجن الذي توقفت قبالته شاحنتنا وأنزلونا في إنتظار إدخالنا إليه، ويالغرابتي ، لم أكن حزينا لما أصابني اليوم، ولا ما أصاب عائلتي، ولا للمصير المجهول الذي ينتظرني، بقدر ما كنت حزينا وأنا أقرأ الاسم ، كنت أنظر إلى البناية العتيقة وهي تحمل لافتتها وأقول "كان الأمر سيكون نفسيا مختلفا تماما لو أدخلونا سجنا آخر لا يحمل أسم .. أبو زعبل" !!
أسعد طه
"يُتبع"
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.