ليبيا.. التوافق الصعب وغربان الحرب

هذه الحزمة من القرارات لا تُفهم إلا في إطار واحد.. لا حل دون حفاظ خليفة حفتر على منصبه وصلاحياته.. على الأقل هذا ما يقوله أغلب أعضاء نواب البرلمان.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/19 الساعة 01:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/19 الساعة 01:09 بتوقيت غرينتش

كان ذلك منذ أسبوعين أو أكثر قليلاً.. ظهر رئيس المؤتمر الوطني العام نوري أبو سهمين في خطاب مطول.. أراد الرجل من خلال ظهوره هذا أن ينفي عن نفسه تهماً كثيرة أطلقها أعداؤه وخصومه على حد سواء، فيها ما يتعلق بكونه محسوباً على الإسلاميين بمختلف تياراتهم، وفيها ما يتعلق بتعطيل الحوار السياسي برعاية أممية، وفيها ما هو مرتبط بكيفية تسييره لشؤون المنطقة الغربية، وهي التي تعاني حالة إنهاك أمني ومعيشي..

حاول أبو سهمين -وهو الذي قاد المؤتمر الوطني العام في فترات حالكة جدًّا- وطوال أكثر من خمسين دقيقة أن يبعث برسائل قوة للداخل والخارج، أهم هذه الرسائل أنه لا يزال ممسكاً بخيوط اللعبة في المنطقة الغربية ونفى الرجل خلال كلمته هذه كل ما قيل في شأنه حول تعطيل حوار الصخيرات.. دفع الرجل بكل ما يملك من براهين ودعا من يشككون في نزاهته أن يتقدّموا ويتقدم هو ومعه كل مسؤولي الدولة وأعضاء المؤتمر الوطني إلى القضاء ليبت في ذمتهم المالية..

حاول أبو سهمين أن يظهر بمظهر القوي، لكنه على العكس من ذلك بدا ضعيفاً ومُنهكاً، رغم ما رافق الساعات التي تلت هذا الخطاب من استعراض لقوات الشرطة بسياراتها وأسلحتها في العاصمة طرابلس.. في مساء نفس اليوم ظهر عضو المؤتمر الوطني عبد الرحمان السويحلي وهو المرشّح لرئاسة المجلس الأعلى للدولة (هيئة استشارية عليا حسب اتفاق الصخيرات) وحذّر أبو سهمين من أن قعقعة السلاح لا يمكن أن تخدم الحل في ليبيا.. راهن أبو سهمين على نزاهته المالية وعلى إيمانه العميق بالثورة وعلى وطنيته وحسن نواياه كي تمهّد له طريق الحل السياسي، لكن مسالك السياسة لا تتطلب ربما وخاصة في السياق الليبي الحالي نوايا حسنة بقدر ما تتطلب خيارات موفقة وناجزة متوفرة على شروط التحقق والديمومة.

يجد أبو سهمين نفسه في موقف صعب، خاصة أن الاتفاق الليبي/الليبي الذي راهن عليه ضارباً عرض الحائط باتفاق الصخيرات تعثر وتبعثرت أوراقه، بعد أن قام عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي ونظيره في هذا الاتفاق بالإشراف على جلسة البرلمان التي صادقت على اتفاق الصخيرات، كما سبق لأبو سهمين أن رفض في ثلاث مناسبات لقاء رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج رغم إصرار الأخير على ذلك
ما قام به عقيلة صالح من تجاهل لاتفاق مالطا (الليبي/الليبي) لم يكن إلا طعنة إضافية.. يتلقاها أبو سهمين من نظيره في الجهة الشرقية.. ربما ليس عقيلة صالح أكثر نزاهة ووطنية من أبو سهمين وهو الّذي وفر الغطاء السياسي لجرائم حفتر في بنغازي، إلا أنه بالتأكيد أكثر كياسة وقدرة على المناورة في دروب الحل الليبي، ويظهر ذلك من خلال سياسة مجلس النواب في التعاطي مع مجريات الأحداث، إذ استدرج عقيلة صالح النواب المقاطعين للبرلمان؛ ليأدوا اليمين أعضاءً جدداً، مما يعطي شرعية أكبر لقررات البرلمان، ومما يرجّح كفة الاتفاق السياسي على حساب حكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا، بعد ذلك صادق البرلمان على الاتفاق السياسي برعاية أممية، وهو ما سيجنبه الحرج الأخلاقي، وحتى العقوبات الدولية، وبعد التصويت على الاتفاق السياسي برمته، صوّت البرلمان على تجميد المادة الثامنة من الاتفاق السياسي، وهي المادة التي تقضي بشغور المناصب القيادية في الجيش.

رغم أن الاتفاق السياسي لا يعطي البرلمان الحق في تجميد أيٍّ من مواد الاتفاق، ومع ذلك أصر البرلمان على مطلبه بتجميد هذه المادة ومن ثمّ صوّت البرلمان على حل لجنة الحوار السياسي عن المجلس التي يرأسها النائب محمد شعيب، كما رفض المصادقة على تشكيلة حكومة الوفاق المقترحة من قِبل المجلس الرئاسي المنبثق عن الاتفاق السياسي، وبهذا يكون البرلمان الليبي قد أذهب عن نفسه حرج رفض الاتفاق، وناور بالمجتمع الدولي المهدد للمعرقلين بالعقوبات، ووضع الموقعين على اتفاق الصخيرات في مأزق إجرائي ونسف تواصل أعمال لجنة الحوار السياسي بعد أن أقال ممثليه داخلها..

هذه الحزمة من القرارات لا تُفهم إلا في إطار واحد.. لا حل دون حفاظ خليفة حفتر على منصبه وصلاحياته.. على الأقل هذا ما يقوله أغلب أعضاء نواب البرلمان.

المجلس الرئاسي المناط بعهدته تشكيل الحكومة وإنفاذ الكثير من جوانب الاتفاق يشهد هو الآخر انقسامات بسبب موقع حفتر في المشهد، بدأت هذه الانقسامات مع تشكيل اللجنة الأمنية العليا التي ستسهر على تنفيذ الترتيبات الأمنية بعد مجيء الحكومة الجديدة لطرابلس، حيث قرر المجلس أن يترأس العميد عبد الرحمان الطويل -وهو من قيادات الثوار- هذه اللجنة، وهو ما لم يرق لبعض أعضاء المجلس من مساندي حفتر وقد تطور هذا الخلاف بين أعضاء المجلس الرئاسي عند الإعلان عن التشكيلة الأولى لحكومة الوفاق حد انسحاب علي القطراني وعمر الأسود من المجلس، قبل العودة إليه مجدداً، ومع إصرارهما على تأمين موقع حفتر في المشهد الجديد تطور الخلاف داخل المجلس الرئاسي إلى الحد الذي جعل أحمد معيتيق وعلي القطراني يتبدلان اللكمات قبل أن ينسحب هذا الأخير من مداولات المجلس عائداً إلى القاهرة، مع ذلك خرجت التشكيلة الجديدة لحكومة الوفاق الوطني للعلن بعد لأي طويل..

بالتوازي مع العملية السياسية المتقدّمة ببطء وبصعوبة.. يطفو على السطح الحديث عن تدخل عسكري في ليبيا ومردُّ هذا التواجد الواضح لتنظيم الدولة في ليبيا وقيامه بعمليات عدة أشهرها عملية ذبح المصريين الأقباط وحيث يختلف الكثيرون في تفكيك هوية التنظيم، فإن نشأته تبدو تقاطعاً لعوامل عدة أهمها فوضى السلاح واستباحة الساحة الليبية بما يجعلها عرضة لاختراق المخابرات الأجنبية، بالإضافة للفراغ الأمني الذي يسود تقريباً كامل المنطقة الشرقية.

يحاول التنظيم من خلال قاعدته في مدينة سرت، السيطرة على مساحة أوسع بما يمكنه من هامش تحرك أكبر في ظل الانقسام سياسي الحاد والغياب شبه التام لدور الدولة في التصدي له.. لكن هذا التنظيم المتواجد في ليبيا لا يعدو كونه مجموعة مسلحة من مئات المقاتلين غالبهم الأعم من غير الليبيين، ولا يمتلك التنظيم في نسخته الليبية أي نوع من الأسلحة النوعية أو الصواريخ التي من الممكن أن تهدد دول الجوار، كما أنه لا يحظى بدعم العمق الشعبي في مدينة سرت التي لا تزيد مساحتها عن 77 كلم مربعاً. بالإضافة إلى أن التنظيم فقد مواقعه في بنغازي وتراجع بشكل ملحوظ في درنة ليقتصر تموقعه على حي الفتائح أين يخوض ضده مجلس شورى ثوار درنة قتالاً دون هوادة، فضلاً علن الضربات الجوية التي أنهكت التنظيم في الأشهر الماضية والتي تقوم بها طائرات بدون طيار يرجّح أنها أميركية وفرنسية، بالإضافة لقصف طائرات سلاح الجو التابع لرئاسة الأركان الخاضعة لقيادة المؤتمر الوطني العام، وأفقدت عمليات القصف المتكررة هذه التنظيم أميره في ليبيا أبو مغيرة القحطاني.

على العكس من هذه العمليات التي حدّت من خطر تنظيم الدولة، وأوقفت زحفه نحو مناطق مجاورة لمدينة سرت.. لم تتسم عمليات سلاح الجو التابع للواء المتقاعد خليفة حفتر بالفعالية، كما أن حفتر لم يتسهدف التنظيم في مناسبات كانت عملياته فيها جريئة وخطيرة كمحاولته السيطرة على ميناء السدرة النفطي الشهر الماضي، حيث لم يتدخل حفتر رغم استنجاد حرس المنشآت النفطية به ليتدخّل،
تحرُّك التنظيم نحو المواقع النفطية ربما يكون هو المعطى للفت الإدراة الأمريكية للتحرك في هذا السياق، قالت الصحافة الأميركية بأن الولايات المتحدة تبحث عن شركاء أقوياء على الأرض وقال الرئيس الأميركي إنه تم بَعْث بخبراء لاستطلاع الأمر وتقييم خطر التنظيم وقدرته على التوسّع والانتشار.

الموقف الدولي من وضع تنظيم الدولة في ليبيا يمكن فهمه من خلال تصريحات وزراء دفاع وخارجية حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي، فوزير الخارجية البريطاني مثلاً صرح منذ أيام قليلة بأن بلاده لا تعتزم نشر قوات قتالية في ليبيا، لكنها ستسعى إلى تقديم الدعم الإستراتيجي والمخابراتي لحكومتها الجديدة، وهو تقريباً نفس ما ذهب إليه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، حيث قال إن حلف الناتو مستعد لمساعدة ليبيا في محاربة التنظيم، وخصوصاً في تكوين مؤسسات قوة في البلد إذا طلبت الحكومة الجديدة ذلك، الرسالة نفسها وجهتها مفوضة الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية فيديركا موغيريني التي استبعدت أي تدخل عسكري غربي قبل تشكيل حكومة الوفاق الوطني لتتقاطع في ذلك وما قاله المبعوث الأممي السابق في ليبيا طارق متري على موقعه على تويتر، والتي وردت كالتالي.. في اجتماع روما استبعد البعض تدخلاً عسكريًّا في ليبيا فيما استأخره البعض الآخر. واتفق الكل على دعم العملية السياسية التي يتحكم بها الليبيون أولاً..

تصريح وزير الخارجية الإيطالي باولو جينتيلوني لم يشذ عن جوهر تصريحات بقية القادة الغربيين، حيث صرّح بأن ليست هناك أية عجلة للتدخل في ليبيا لا من قبل إيطاليا ولا من جانب المجتمع الدولي
كل هذه التصريحات والإشارات تدل على أن دور الدول الغربية في أي عمل عسكري يستهدف تنظيم الدولة لن يكون إلا في إطار دعم حكومة الوفاق الوطني عسكريًّا واستخباراتيًّا وفي أقصى الحالات بعمليات إسناد جوي لقوات ليبية على الأرض تستهدف المناطق التي يسيطر عليها التنظيم أساساً مدينة سرت.

يثير الحديث عن تدخل غربي في ليبيا مخاوف دول الجوار من أن تطالها شظايا هذا التدخل، وإذا كان التونسييون يرفضون هذا التدخل لاعتبارات اقتصادية أولاً ثم أمنية، فإن الجزائريين يرون أن التدخل يجب أن يكون محدوداً بضربات جوية تستهدف مواقع تمركز تنظيم الدولة، أما إذا جاوز التدخل هذا الحد فإن ذلك سيضر بالأمن القومي الجزائري بشكل مباشرة، رئيس حكومة الوفاق ذهب لزيارة الجزائر منذ أيام والتقى هناك الرئيس الجزائري، ويبدو أن السراج حدثه عن فرضية طلب تدخل أجنبي.. لم يجبه بوتفليقة في الحين، لكن إجابته جاءت مباشرة بعد عودة السراج حيث قررت السلطات الجزائرية إغلاق مجالها الجوي في وجه الطائرات الليبية.

مواقف الدول الغربية تبدو على قدر كبير من الكياسة وتعكس دراية عميقة بتفاصيل الساحة الليبية، فأي تدخل بري أجنبي في الوضع الحالي الذي يتصف بالتشظي السياسي وبفوضى السلاح سيذكي دعاية تنظيم الدولة في ليبيا، وربما تجد هذه الدعاية لها صدى لدى تنظيمات أخرى معتدلة سترى في هذا التدخل البري احتلالاً جديداً كما سيتحول التنظيم إلى مغناطيس يجذب الشباب المتطرف من كل أسقاع العالم لمقاتلة القوات التي جاءت لمحاربة التنظيم، كما أن تدخلاً بريًّا محتملاً سيخلق للتنظيم حاضنة شعبية، ويفتقدها الآن ويحاول جاهداً إيجادها، كل هذا يُضاف إلى اعتبار أن فصائل كثيرة معتدلة عبرت عن رفضها لأي تدخل بري وهو ما يعني أنها ستتعامل معه في حال حصوله على أنه قوة احتلال، الأمر الّذي سيكلف هذه القوات خسائر جسيمة في الأرواح والآليات، وهو درس سبق لدول كثيرة تعلمه في كل من العراق وأفغانستان، ومن الواضح أنها لا تبدو على استعداد لتكراره أو تحمله تكاليفه العسكرية أو المالية أو السياسية الانتخابية مرة أخرى، المعطى الانتخابي يخص على الأقل فرنسا والولايات المتحدة إذ تنتظر الدولتان استحقاقاً انتخابيًّا مهما في 2017 لذلك تنصب الجهود الغربية على دعم الحل السياسي وعلى أن يحارب الليبيون الإرهاب بأنفسهم.

الحديث عن تدخل غربي محتمل في ليبيا يثير بشكل لافت وسائل الإعلام والمحللين التونسيين، حيث تناولت جل وسائل الإعلام في تونس الموضوع من زواياه المختلفة وانطلق من يقدمون أنفسهم كخبراء في الشأن الليبي في تقديم قراءات غريبة لا علاقة لها بالواقع الليبي لا من قريب ولا من بعيد وتعتمد في جزء كبير منها على معطيات مغلوطة وإشاعات إحدى هذه القراءات قدمتها صحيفة الشروق التونسية التي تحدثت في تقرير خاص عن ليبيا عن عملية عسكرية يشارك فيها 50 ألف جندي ومائة طائرة مقاتلة!

حُمّى التدخل الغربي في ليبيا والتي يشهدها الإعلام التونسي منذ أيام.. تجاوزت الإعلاميين لتطال من هم في موقع القرار، فالنائب بالبرلمان التونسي الصحبي بن فرج، تحدث عن تدخل عسكري كبير سيحدث في غضون أيام وأن (جماعة فجر ليبيا) على حد تعبيره وحلفاءهم في تونس سيتأثرون حتماً بذلك وعليهم أن يقبلوا بهذا التدخل وإلا جرفهم التيار..

يبدو أن النائب التونسي شأنه شأن عديد صناع القرار والإعلاميين في تونس، مغيبون بشكل شبه تام عن نقاش المجتمع الدولي حول ليبيا ويجهلون تفاصيل الخلاف الداخلية جهلاً مطبقاً زاد من ضبابية الصورة لدى التونسيين المتخوفين من حرب محتملة.. حرب يبدو أن جمعاً من تجار المنظمات غير الحكومية يتمنون وقوعها كي تنتعش تجارتهم من خلال استجداء المساعدات والدعم، شأنهم شأن بقايا الأنظمة السابقة وهؤلاء هم اليوم أشبه بغربان الحرب الناعقة الّذين قد يجدون في عملية عسكرية كبرى عزاءً لأنفسهم وهم الّذين يعتبرون الثورات التي قامت طلباً للحرية والكرامة مؤامرات وخططاً للتقسيم..

رغم كل ما يسود المشهد من توتر فإن الليبيين المجتمعين في المغرب أو في تونس بهدف الحوار أبانوا عن مرونة وبرغماتية في إدارة الخلاف والآن وهم يستعدون للمصادقة على تشكيلة حكومة الوفاق في نسختها الثانية يبدو خلافهم الّذي طال قاب قوسين أو أدنى من أن يطويه التاريخ دون رجعة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد