في الميثالوجيا الإغريقية، يروى أن الملك غضب من ديدالوس، فحبسه وابنه إيكاروس في متاهة في جزيرة "كريت" عقاباً للأب. بعد محاولات فاشلة للخروج من سراديب المتاهة، أيقن ديدالوس أن الطيران هو الوسيلة المتاحة الناجعة. فصنع أجنحة من ريش وصمغ، وألصق اثنين بجسده، واثنين آخرين بجسد ابنه، وتلا وصاياه على مسامع إيكاروس: "أي بني، عليك بالطيران المتوسط! لا تحلق منخفضاً فتؤذيك رطوبة البحر، ولا تحلق مرتفعاً فتؤذيك حرارة الشمس". انطلقا في رحلتهما، وعانقا السماء علوًّا، ونجحا بداية في الفرار. رآهما صياد يرمي شباكه في البحر، وراع يحرس غنمه، وفلاح يحرث حقله، فظنوا أنهما إلهين. اغتر إيكاروس بقدرته وأعجب بنفسه وتجاهل صيحات أبيه، وارتفع أكثر حتى أذابت حرارة الشمس الصمغ وتراخى الريش، وسقط غريقاً في بحر سمّي على اسمه لاحقاً. هرب الأب وغدا حرًّا، وأخفق الابن إخفاقاً خلده في ثنايا التاريخ.
طالما أبهرت الشمس بضيائها عقول العارفين، وحاولوا بواسطتها اختراق بحور الظلمات، وقصدوها طامحين لمعرفة الاتجاهات سائرها. ضربوا بها الأمثال، وجعلها الأقدمون إلهة بسبب اعتقادهم الدفين بعظمتها، ونظموا فيها الشعر، ومنه قول ابن زيدون: "هي الشمس مغربها في الكلل.. ومطلعها من جيوب الحلل". هي رمز النور وقبسه، والهداية وبركتها، والحق وبزوغه. الأجرام من حولها تدور، وتناجي دفئها في مسارات مرسومة متأملة العدوى من مجدها ولو قليلاً. إيكاروس حذا حذوهم، وسار مسالكهم ودروبهم، ولكنه غفل عن حقيقة أن الاقتراب منها أكثر من اللازم مميت وفيه النهاية الأكيدة.
الشمس حياة وموت في آن معاً، إلا أن حياتها غلبت موتها، إذ أنت أتقنت ملامسة طيفها من مسافة معقولة. في منتصف القرن الماضي، اكتشفوا كويكباً يقترب من الشمس بأكبر درجة معروفة في ذلك الوقت، وأطلقوا عليه اسم "إيكاروس" تيمناً بمغامرة الابن الإغريقي إياه. حتى علماء النفس وجدوا في إيكاروس ضالتهم تعبيراً عن حالة الطموح الزائد غير المحسوب والنرجسية العالية، وباتت متلازمة معروفة لديهم وفي كتبهم وعلومهم.
صار إيكاروس قصة تحكى ودرساً يستفاد لكافة القصص المشابهة اللاحقة. فالشمس جميلة مبهرة عن بعد، ومخيفة مرعبة عن قرب، واستدامة النظر إليها من دون حاجز ربما كان من المشقات التي نحاول مراراً اجتنابها. على سطحها انفجارات ولهب ونار تضطرم وحرارة مرتفعة، أما بعد الابتعاد عنها تصبح مصدر تفاؤل وحب. وإذا حدث واختفت كليًّا، فالاشتياق لوجودها سيغلبنا لا محالة. إيكاروس لم يعقل فن التوسط والاعتدال، وأخذته العزة بالإثم، فواجه عواقب أعماله فيما تلا من لحظات. القصة ليست محصورة فقط في الإقدام على المخاطر بتهور ومجازفة، وتجنب الثقة المسرفة بالنفس، وإنما في الغلو في الانسياق خلف الشهوات والرغبات.
هو تبع سراباً زينته له نفسه، وجرى خلف الصدى محاولاً اقتناص ومضات عز، فانتهى غريقاً تتلاعب بجسده أمواج البحر. وفي زمننا هذا الذي نعيش، المبالغة واعتناق الحدود القصوى والدنيا هي السمة الطاغية. مغالاة وتنطع في الدين، وتبارز في المظاهر، وبذخ في الشؤون كافة، وتقدير للمتطرفات والمتنحيات من الأمور فضلاً عن أواسطها. فالمكونات المجتمعية جلّها في سباق محموم وتنازع مشتعل نحو الأقاصي والأداني، والساحة الوسطى تكاد تكون فارغة إلا من قلة. بل بسبب غرابتها مؤخراً، اشتبه على القوم العدم والوسط، وحسبوا أن القليل توسطاً واعتدالاً كذلك. فإيكاروس لو انخفض، لكان البحر لقمه بفعل رطوبته. يحلو لنا أن نأخذ أيضاً من الانعدام مذهباً، لأنه أقل تعباً. فالتشدد في الشيء مماثل للتخفيف المندفع منه، وإن كانا في اتجاهين متقابلين. أن تطير بتوازن وحولك المغريات مهمة مضنية، وهي الأصعب. ستراهم يأوون إلى أحد الجانبين، وستغوص كفة ميزانهم وتخبط الأرض ومن عليها. أما المتوازنون فقدم في النار وأخرى في الماء، عسى أن تطفئ برودة الماء حرارة النار، فيَنجوا ويُنجوا!
ربما يجد البعض لإيكاروس في مغالاته عذراً؛ فتحمسه ما كان إلا في سبيل حرية غرسها الأب في جوفه، وبحث عن الحقيقة في زوايا الكون الشاسع. انتمى لآفاق أخرى جديدة، وترك خلفه ريشاً طافياً فوق سطح البحر كدليل على عشقه اللامحدود للحرية من القيد.
فالجناحان اللذان خذلا صاحبهما هما أيضاً المسؤولان عن بقاء إيكاروس في ذاكرة البشر. أفنى وجوده من أجل حلم خالجه، فاختفى في عمقه وذاب فيه عن طيب خاطر. وكل هذا إن أردنا تبرير فعلة إيكاروس، وإضفاء لمسة من الشرعية المباحة عليها، والقصة بالمناسبة تحتملها.
لكن حديثنا هنا عن العارض الذي أصاب الخليقة، فانجرفوا نحو الأطراف مبتعدين عن نقاط الارتكاز، واختل توازن سفينة المجتمع بأكمله لا سفينتهم وحدهم. هي حمى احتلت واستوطنت الأرجاء، حتى دمغت البلدان بخطرها وغرقت الأجسام بوحلها. هي حمى إيكاروس، وكفى!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.