هناك اتجاه دائم في مصر لتحميل الشعب مسؤولية الفقر والتأخر، وتحميله أيضا الجزء الأكبر من أعباء أي سياسة لإصلاح الاقتصاد. أعتقد ان هناك الكثير من المغالطات في هذا الشأن.
أول المغالطات أن الاصلاح الاقتصادي يبدأ برفع الدعم. فقد سمع المصريون مؤخرا تصريحات حول ضرورة إعادة تسعير المياه ورفع الدعم عنها، وأن الأموال التي تذهب للدعم أخطر على الاقتصاد من الفساد.
من الناحية الاقتصادية لا يمكن لبلد به الملايين الذين لا تتوفر لهم لا مياه صالحة للشرب أو كهرباء، وملايين يقطنون بالمقابر، أن يبدأ أي اصلاح اقتصادي برفع الدعم عن الطبقات المحرومة والفقيرة، فهذه الفئات تحتاج في واقع الأمر إلى برامج تمكين ورعاية اجتماعية وصحية وفي ذات الوقت إلى إيجاد قواعد إنتاجية إضافية تخلق فرص عمل جديدة.
ولا يمكن بدء أي إصلاح برفع الدعم فقط بينما لا يسمع أحد عن تصحيح الأخطاء الأخرى الأكبر، كالصناديق الخاصة والفساد وبدلات كبار المسؤولين ورفع مرتبات بعض الفئات بشكل متكرر، أو إعفاء بعض القطاعات من الضرائب والجمارك وغير ذلك.
صدرت منذ ٢٠١٣ مجموعة تشريعات بهدف معلن هو زيادة الاستثمارات بينما كان الهدف هو حماية الفساد والتصالح مع المستثمرين (أو بالأدق اللصوص منهم) في جرائم منصوص عليها في قانون العقوبات (مثل تعديل مادة ١٦ لقانون الإجراءات الجنائية في مارس ٢٠١٤)، وكذلك منع أو تحجيم الرقابتين الشعبية والقضائية على العقود الإدارية التي تحررها الدولة مع المستثمرين. هذا ناهيك عن القرارات والقوانين التي تعزز من السيطرة الاقتصادية للشركات التابعة للقوات المسلحة.
وهناك مغالطة ثانية وهي تصور أنه يمكن ويجب حل المشكلة الاقتصادية دون حل المشكلة السياسية. هذا أمر في غاية الصعوبة وهو شبه مستحيل في حالتنا. فالسياسة هي التي أفسدت الاقتصاد وليس العكس.
من غير الممكن تصور أن تقوم حكومة ما بأخطاء سياسية فادحة (قتل الآلاف واعتقال عشرات الآلاف وعمليات تعذيب واختفاء قسري وأحكام مسيسة وقمع كل الآراء المعارضة وتوجيه الإعلام والسيطرة على القضاء والمؤسسات الدينية والجامعات وقمع المجتمع المدني والنقابات وغير ذلك) ثم يكون في استطاعتها حل المشكلة الاقتصادية.
هذا لم يحدث في التاريخ. والقياس على الاستثناء الآسيوي قياس غير دقيق، فقد نجح الحكام الشموليون والعسكريون في بعض دول جنوب شرق اسيا وامريكا اللاتينية في بناء قاعدة اقتصادية وصناعية، لكن توفرت في معظم هذه الحالات الحد الأدنى من المتطلبات (كوجود رؤية للقادة، والاعتماد على العلم والمتخصصين ودراسات الجدوى الاقتصادية، والاهتمام برأس المال البشري والتعليم، واقرار حد أدني من الأُطر الدستورية والقانونية)، إلى جانب أن معظم هذه الدول انتقلت لاحقا الى الديمقراطية.
وفي كل هذه الحالات لم تُرتكب (كما يحدث عندنا) انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان، ولم يتم تقسيم المجتمع وشيطنة فريق منه وإقصاء وتخوين كل من لا يصطف مع الحكومة، ولم يتم نفي الآلاف من الشباب والعقول، ولم تشهد وسائل الإعلام فيها تحريض يومي على القتل والاقصاء.
لا يوجد دولة واحدة نجحت اقتصاديا في ظل شعب مقهور ويتم تخويفه ولومه يوميا؛ لأن الاصلاح الاقتصادي يحتاج ببساطة إلى مجتمع قوي وشعب واع ولديه ثقة في قدراته وفي مؤسساته السياسية، ويحتاج إلى مسؤولين يقدمون القدوة في العمل واحترام القانون وتعبئة الشعب وراء الإصلاح.
وأي اصلاح اقتصادي حقيقي لابد أن يواكبه (أو يسبقه في واقع الأمر) عدة استحقاقات سياسية أو الحد الأدني منها، وأهمها دولة القانون والمعايير الثابتة ومنظومة قانونية للثواب والعقاب تطبق على الجميع بلا استثناء، وقضاء مستقل وأجهزة رقابية مستقلة، وبرلمان حقيقي، والفصل بين السلطات، وقانون لإتاحة المعلومات ضمانا للشفافية وتمكينا للأفراد والمجتمع المدني من رقابة الموظف العام.
عادت هذه المغالطة للظهور من جديد أيضا على يد دوائر سياسية وبحثية في الغرب. فهذه الدوائر تطالب الآن بسياسات لتحسين مستوى معيشة الشعب وتأجيل الحديث عن الحريات والديمقراطية، لأن الحكومات الغربية اختارت التحالف من جديد مع الحكام الشموليين والعسكريين على حساب الديمقراطية والحريات.
هذه سياسة فاشلة وقد أثبتت برامج الإصلاح التي نفذتها حكومات مبارك في التسعينيات ذلك، فمعظم ثمار هذه العملية لم تصل إلى الفئات المحرومة وانتهت إلى افقار الفقراء وإثراء الأثرياء في النهاية، وكانت من أسباب سحق كرامة الشعب ومن ثم اندلاع ثورة يناير.
أما المغالطة الثالثة فهي افتراض أن النظام يريد الإصلاح الاقتصادي، فقد تكون سياسات نظام الحكم في مصر سياسات عشوائية وفاشلة في معالجة المشكلات الاقتصادية لأسباب كثيرة، لكن ما هو أهم من هذا هو افتراض أن النظام يريد فعلا حلا لهذه المشكلات. هذا افتراض غير دقيق.
تاريخ أنظمة الحكم المطلق تثبت أن هذه الانظمة لا تهتم بالإصلاح الاقتصادي الحقيقي إلا بالقدر الذي يضمن لها البقاء، لسببين أساسيين على الأقل، أولهما أنها تعتبر أن الإصلاح سينتج عنه تمكين قوى مجتمعية جديدة، وبالتالي سيتبعه بالضرورة إصلاح سياسي وتحرير الشعب من الهيمنة والتسلط. والسبب الثاني هو تبعية هذه الأنظمة للخارج وعدم رغبتها في الخروج من هذه التبعية لأنها مصدر الحماية الأولى لها (وليس الشعب كما في النظم الديمقراطيةالحديثة).
ولهذا يكون هدف هذه الأنظمة هو تجميد الوضع الراهن والحيلولة دون تحسينه أو تدهوره، مع بعض التحسينات الشكلية بالطبع. ويتم هذا في مصر من خلال احتكار الثروة في يد قلة ومحاربة أي محاولة حقيقية للإصلاح الاقتصادي، الذي يضمن توزيع أوسع وأعدل للثروة، ويتم أيضا من خلال عدم الاهتمام بمحاربة الفساد ولا بإصلاج الأجور، ولا برفع الانتاجية إلا بالقدر الذي يضمن البقاء للنظام، ولا بالطبع بإصلاح التعليم والجامعات والاستثمار في العنصر البشري.
أخيرا يجب على المصريين أن يدركوا أن الإصلاح الاقتصادي يتطلب حكومة شرعية ودولة قانون ومؤسسات وشفافية ومحاسبة، وليس حكومة تحارب شعبها وتقسمه ويدعو وزير العدل فيها إلى قتل عشرات الآلاف منهم علنا، وتتحكم فيها الأجهزة الأمنية، وتقوم على الاستثناءات والوظائف الطائفية، ويتم فيها إفساد السياسة وتزوير الانتخابات وحماية الفساد وشراء ضمائر موظفي الدولة والمثقفين وأساتذة الجامعات والقضاة.
الإصلاح الاقتصادي يحتاج شعبا حرا ومتعلما وجامعات قوية ومراكز بحوث وتمكين للكفاءات، وليس حكومة تقمع الطلاب والأساتذة وتؤمن بالخرافات وتروج المغالطات والأساطير وتصدر أشباه المتعلمين لملء المجال العام والتفاخر بالجهل.
نشر هذا المقال في جردية البديل، ويمكن الإطلاع عليه من هنا
http://elbadil.com/?p=954305
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.