البخششة بسورية

تبارت القيادات السورية نظاماً ومعارضة خلال الخمس سنوات الماضية في توزيع الولاءات على الدول والسفارات وأجهزة المخابرات والشخصيات النافذة، فالنظام الذي كان يتحدث عن السيادة 24 ساعة في اليوم، صار حسن نصرالله وعلي الخامنئي وسيرغي لافروف هم الذين يمثلونه ويتخذون قراراته

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/15 الساعة 01:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/15 الساعة 01:37 بتوقيت غرينتش

لم يكن افتتاح ممثلية لأكراد سورية في موسكو الأسبوع الماضي، وتعليق خارطة على جدرانها لما سموه "روج آفا" أو غرب كردستان التي تقتطع شريطاً من الأراضي السورية يمتد على طول الحدود التركية ابتدءاً من أقصى نقطة في الحدود الشرقية لسورية مع العراق وصولاً إلى البحر المتوسط، أولى محاولات البخششة بسورية، ولن تكون الأخيرة، فقبلها أعلنت الولايات المتحدة الأميركية أن عمليات روسيا الحربية في سورية تهدف لإنشاء دويلة علوية على الشريط الساحلي لسورية ليحكمها بشار الأسد، حدث ذلك بعد أن منح نظام بشار الأسد لطائرات روسيا وعسكرها حرية الاحتلال والقصف والقتل والتدمير دفاعاً عن نظامه، وفوّض روسيا بالتحدث والتفاوض باسم سورية وتمثيلها واتخاذ القرارات عنها بدون حتى الرجوع إليه للتشاور معه، كما يظهر في كل تصريحات بوتين وميدفيديف ولافروف.

قبل ذلك وفي السنوات الأولى للثورة السورية، أعلن مهدي طائب الذي يعمل في أحد المراكز التابعة لمؤسسة الخميني، أن سورية هي المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثين، ولم يجد داخل النظامين الإيراني والسوري من يرد عليه أو يكذّبه أو حتى من يلتف على تصريحه بالقول بأنه فُهم خطأ أو أن تصريحه انتزع من سياقه، وبناء على تفويض نظام بشار الأسد الذي منح لإيران الوصاية على نظامه، اعتبرت المليشيا الشيعية اللبنانية والعراقية والأفغانية والإيرانية أن منطقة السيدة زينب المجاورة لدمشق، أرض شيعية مقدسة عابرة للحدود والقوانين والدول الوطنية، وليست سورية؛ ولذلك فمن حقهم الدفاع عنها وعن حدودها التي امتدت فيما بعد إلى كل حدود سورية.

خلال سنوات الثورة السورية منح أكثر من طرف لأنفسهم أو لأطراف آخرين داخل سورية وخارجها، من النظام والمعارضة والدول المتداخلة بينهما حق البخششة بالكيان السوري أو بأجزاء منه، مرةً عبر التنازل عن هويتها الجامعة، أو باعتبارها أراضيَ خاصة بساكنيها، تبعيتها لإثنياتهم القومية أو الدينية أو المذهبية، وممنوع على الثورة تحريرها من النظام، أو باعتبارها كيانات منفصلة لا ينقص استقلالها عن سورية إلاّ إعلانه رسميًّا أو الانضمام لدولة أخرى، فأسقط ائتلاف المعارضة الهوية العربية لما يزيد عن ثمانين بالمائة من السوريين من اسم الجمهورية العربية السورية تنفيذاً لشروط الأكراد، الذين لا تزيد نسبتهم في أحسن أحوالها عن خمسة عشر بالمائة من سكان سورية، لمجرد أنه يريد ضمان تمثيلهم في صفوفه.

وقبلها أُديرت حملة دولية ضد دخول الثوار إلى مدينة كسب التي يشكل الأرمن نصف سكانها باعتبارها محمية خاصة بهم وليست جزءاً من الأراضي السورية، ولا يحق للثورة الاقتراب من خصوصيتهم، وحدث ما يشبه ذلك في بلدة معلولا ذات الغالبية المسيحية، وعلت صرخات تستنكر وتدين وتشجب وحشية سقوط عشر قذائف هاون على مناطق القصاع وباب شرقي وباب توما التي تسكنها غالبية مسيحية وتطالب بتحييدها، في الوقت التي تُقصف فيه أحياء ملاصقة لتلك المناطق منذ خمس سنوات ليل نهار بدون همسة اعتراض واحدة من جيرانهم، أو ممن رفع صوته لصالح جيرانهم.

ومُنعت فصائل مقاتلة من دخول مدينة السلمية ذات الغالبية الإسماعيلية حفاظاً على خصوصية سكانها، وصدرت أوامر صارمة من الدول العربية الممولة بمنع الثوار من تحرير بلدات نبل والزهراء وكفريا والفوعة ذات الغالبية الشيعية، وفكّرت إسرائيل أو طلب منها دروز إسرائيل أن تفكّر (وربما لا تزال الفكرة على الطاولة بانتظار نهاية المعركة) بضم محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية إليها، عندما اقتربت كتائب الثورة من حدودها قبل أن تتراجع بأوامر من غرفة الموك الأميركية في الأردن التي تموّل وتتحكم بكتائب المعارضة "المعتدلة" في الجنوب، وقبل ذلك كلّه استولى تنظيم الدولة الإسلامية على أراضٍ واسعة في سورية والعراق، وألغى الحدود بينهما، وقرر إقامة خلافته عليها وتطبيق قوانينه على سكانها!

وكما أصبح من الطبيعي والمألوف خلال الخمس سنوات الماضية أن تشاهد سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي يصرّح ويستفيض ويرد على أسئلة الصحفيين في كل الأمور التي تتعلق بسورية، وإلى جانبه يجلس وزير الخارجية السوري وليد المعلّم صامتاً يهز رأسه موافقاً، أو ترى صورة وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف وهو يرد على سؤال وُجِّه أساساً لوليد المعلم، صار من الطبيعي أن تشاهد رئيس المجلس الوطني السوري ومن بعده رئيس ائتلاف المعارضة وهو يعيد ترديد كلام وزير خارجية الدولة العربية أو الإقليمية الذي يقف بجواره، ثم ينظر إليه ليتأكد أن الأخير راض عما قاله، وأنه يستحق العلامة الكاملة في امتحان مهارات الحفظ غيباً.

تبارت القيادات السورية نظاماً ومعارضة خلال الخمس سنوات الماضية في توزيع الولاءات على الدول والسفارات وأجهزة المخابرات والشخصيات النافذة، فالنظام الذي كان يتحدث عن السيادة 24 ساعة في اليوم، صار حسن نصرالله وعلي الخامنئي وسيرغي لافروف هم الذين يمثلونه ويتخذون قراراته، والثورة التي خرجت لتطيح بالعبودية تحوّلت معارضتها ومثقفوها ومفكروها ونشطاؤها ومؤسساتها إلى موظفين لدى وزارات خارجية وأجهزة مخابرات وسفارات دول عربية وإقليمية وغربية، تقوم برسم توجهاتها، وتموّل أحزابها وتياراتها، وتشكّل وفودها وترسم سقوفها وتقرر مستقبلها، وتبخشش بسورية أو بأجزاء منها حسب الحاجة والمصلحة والسبب.

سورية التي نعرفها في كذبة صور التلفزيون السوري الرسمي ما قبل الثورة، حين يظهر الشيخ وهو يقبل الخوري ويضع يده بيد الشيخ الدرزي الذي يحضن الشيخ الشيعي، مثلها مثل سورية التي ظهرت في كذبة شعارات الثورة الأولى عن الشعب السوري الواحد، انتهيتا على ما يبدو، والتقسيم بدأ عندما تحدث أول طرف عن خصوصيته التي تدفعه لكي ينأى بنفسه عن المشاركة في أحداث بلده، ويفكّر بأن هذه الخصوصية قد تسمح له بالانفصال وخلق كيان أو دويلة أو الانضمام لكيان أو دويلة غير سورية، ووجد من يسمع له ويبخششه بجزء من سورية ممالأةً لخصوصيته، والعودة إلى سورية الماضية سيكون في أحسن أحواله -إن تمَّ- مشابهاً لزوج اكتشف خيانة زوجته له ثم عاد إليها وكأن شيئاً لم يكن!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد