يحكى أنَّ | “هيراك”.. يرضاه لأمه!

لا أعرف سوى أن الحرب تغير المفاهيم، بعض الناس يتشبثون أكثر بالحياة، لقد أدركوا قيمتها، والبعض الآخر على العكس يتساوى لديه الموت بالحياة، ربما من هول ما رأى ومن فقَد من قريب وصديق.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/12 الساعة 09:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/12 الساعة 09:00 بتوقيت غرينتش

قيل لي إن صيدًا ثمينًا قد وقع بأيديهم، وأنه رهن السجن المركزي وأجدر بي أن أحاول لقاءه، توجهت على الفور إلى هناك، بذل صديقي المترجم الدكتور وسيم جهدًا لإقناع الشرطي الواقف على الباب أن يسمح لنا بلقاء المأمور، الوضع شائك والأعصاب مستنفرة والحرب دائرة، بعد حوارات واتصالات قادنا شرطي آخر إلى حيث مأمور السجن المركزي في سراييفو، استقبلنا الرجل متأففًا وسألنا وهو يلملم حاجاته ويضعها في حقيبة يد استعدادًا للانصراف: ماذا تريدون؟

حدثناه عن مجرم الحرب الصربي المعتقل لديه وإمكانية السماح لنا بلقائه، أجابنا بأن هذا يستلزم تصريحًا خاصًا وأمورًا معقدة قد تأخذ وقتًا، بدأت أفقد أعصابي، رفيقي وسيم كما هو محيط بلغة البوسنويين محيط أيضا بطبيعتهم ويعرف كيف ينفذ إلى نفوسهم، فبدأ يستدرج الرجل في حديث طويل لا علاقة له بالأمر، كان ذلك ربما في صيف عام اثنين وتسعين، كان الرجل يتجاوب مع وسيم دون أن يبدي أي تنازلات للسماح لنا بلقاء أسيره، فيما أنا وزميلي المصور الليبي نتابع المشهد بقلق.

تطور الحديث ليمتد إلى الوضع على جبهات القتال، شكا المأمور وهو يتوجه إلى باب غرفته للرحيل من أنه لا يستطيع متابعة الأخبار لأن مذياعه الترانزستور الصغير قد نفدت بطارياته، فسألني وسيم ألديك بطاريات؟ أجبته بالإيجاب، فقال للمأمور على الفور بوسعنا أن نهديك اثنتين، تهللت ملامح الرجل فجأة، وشكرنا وهو غير مصدق، ثم نادى الجندي المسؤول وأمره أن يسهل لنا مهمتنا في لقاء مجرم الحرب واعتذر بأن عليه الانصراف الآن، تهللت أيضًا وجوهنا بالخبر السعيد، غير مصدقين أن ثمن هذا اللقاء الصحفي الثمين هو بطارياتان، وسرنا وراء الجندي إلى حيث أسيرهم وأنا أمني نفسي بلقاء مثير.

للحياة في ظل الحرب لغتها وقوانينها الخاصة بها وهي متغيرة، في بداية أي حرب ينتاب الناس خوف شديد ويحسبون حسابهم ألف مرة في كل خطوة، ثم ما يلبثوا أن يضيقوا بالأمر، ويبدأون في التصرف وكأن الحرب ليست قائمة، أو كأنها أمرًا طبيعيًا يوميًا.

عند نقطة ما على طريق جبلي، أوقفتنا القوات البوسنية ورفضت السماح لنا بالمرور لخطورة الوضع وطلبت منا الانتظار حتى يحل الظلام، كنا متعبين ونود الوصول إلى غايتنا في أسرع وقت، انتهت مفاوضاتنا معهم بالموافقة على مرورنا، شريطة أن نقطع الطريق بأقصى سرعة، ركبنا السيارة جميعًا، وبدأ السائق يشق طريقه وسط كل الاحتمالات التي حذرنا منها قائد الوحدة البوسنية، ساد الصمت السيارة ومن فيها، كلنا مشغولون بالدعاء والابتهال إلى الله، وفي منتصف الطريق انفجرنا كلنا فجأة ضحكًا، إذ وجدنا مقاتلًا يمشي عكس اتجاهنا وقد وضع على كتفه الجاكيت الخاص به ويسير وكأنه يتنزه في مكان ما، لقد سئم الحذر.

تماما كما جرى معي في منطقة أخرى على جبهات القتال حين تساقطت علينا فجأة قنابل الهاون فأمرنا دليلنا أن ننزل مباشرة إلى حفرة بها جنديان بوسنويان ومدفع هاون، جندي يلقم المدفع والآخر يطلقه، إذن أنا في موقع يقصف ويُقصف عليه، يالسعادتي، ويا ليت المترجم لم يخبرني ما أخبره به الجنديان؛ أن القذائف ليست صالحة تمامًا للاستخدام، وأنهما يقومان بتهيئتها تهيئة خاصة حتى تكون كذلك، وأن في ذلك خطورة أن تنفجر في أيديهم.

كانت وجوه المقاتلين عابسة، ومِعَدهم لم تعرف طعامًا منذ أربع وعشرين ساعة، كنت خائفًا، وكان رفيقي كذلك، وكان الجنديان يواليان إطلاق القذائف، وقذائف الجهة الأخرى تتوالى على منطقتنا، وأمرنا أن نخفض روؤسنا دائمًا حتى لا تصيبنا شظية، أما القذيفة فلا مهرب منها، فنحن فعلًا في حفرة وليست خندقًا، ووسط هذه الأجواء أرى جنديًا قادمًا يسير غير مكترث بما يجري، يقف ويكلم من في الحفرة لينقل إليهما التعليمات، وهما يجذبانه ليهبط إليهما اتقاء من القذائف وهو يشيح عنهما ولا يبالي، قلت في نفسي لو كان الساقط مطرًا لتجنبه.

هل هي شجاعة؟ أم إن الحياة والموت قد تساويا لديه؟ لا أعرف سوى أن الحرب تغير المفاهيم، بعض الناس يتشبثون أكثر بالحياة، لقد أدركوا قيمتها، والبعض الآخر على العكس يتساوى لديه الموت بالحياة، ربما من هول ما رأى ومن فقَد من قريب وصديق.
كل المفاهيم تتغير إذن، وتصبح هناك لغة أخرى، أنت لا تأبه لمعجون الأسنان وأنت تستخدمه كل صباح، لكنك مستعد لأن تدفع أي ثمن عندما تحرم منه لعدة أسابيع أو شهور بعد أن تندلع الحرب وتتوقف الحياة وتغلق المحلات، فتبيع حاجاتك الخاصة لقاء أن تشتري فنجانًا من القهوة، أو دواء للصداع، أو علبة سجائر، أو بعض مواد المكياج.

كنت أجد نفسي محتارًا أمام الذين يبيعون أشياءهم الثمينة بثمن زهيد، هل أشتريها وأنا أعرف أن ثمنها الحقيقي أعلى من ذلك بكثير، أم أمتنع وأنا أعرف أن أصحابها في حاجة إلى المال، في الحقيقة كنت دوما أميل إلى الخيار الأخير.

عند خط فاصل، بين مقاتلين بوسنويين من جهة، ومقاتلين صرب من جهة أخرى، صاح مقاتل مسلم على شخص يقاتله في الجهة الأخرى، يا فلان لا تطلق النار، سيخرج ابنك الصغير ليعبر إليك، فالمقاتل الصربي على الجهة الأخرى تسكن عائلته هنا في الجانب المسلم، تتوقف الاشتباكات، يخرج الصغير مرتعدًا ليمر إلى الجهة الأخرى وهو يحمل ما يستطيع وما أعدته أمه لزوجها على الجهة الأخرى، ثم تعود الاشتباكات لتستمر. في المساء يتكرر الأمر، لكن من الجهة الصربية حيث يصيح والد الطفل على الذين يقاتلونه من الناحية الأخرى لا تطلقوا النار سيعبر ابني عائدًا إليكم، تتوقف الاشتباكات، يعبر الطفل وقد حمل معه هدية ثمينة من الجانب الصربي سجائر في زمن الحصار، يستقبلونه ويمررونه إلى أمه ويحصلون على السجائر ثم تستمر الاشتباكات.

حتى الألم طالته التجارة، كان الصحفيون يبحثون عن قصص الاغتصاب لما لها من حساسية، إنها موضوعات مثيرة للقارئ، ولم يكن بوسع كل الضحايا بالطبع الحديث ، فكانت بعض النساء اللائي لم يتعرضن لهذه الجريمة يبدين استعدادهن للحديث للصحفيين مقابل بعض المال، فيتحدثن بما سمعن من الضحايا الأخريات، والصحفيون سعداء أنهم حصلوا على ما يريدون.

على كل حال، وصلنا إلى زنزانة الأسير الصربي أخيرًا، ملامح باهتة لا تدل على أي شئ، أدخلوه إلينا في غرفة مجاورة، وقف الشرطي عند بابها، حبسنا أنفاسنا، أعد المصور أجهزته، استعد المترجم لعمله، وأنا أسأل نفسي ماذا بوسعي أن أسأل متهمًا باغتصاب وقتل ستٍ من الفتيات والسيدات.

ببرود شديد قال مجرم الحرب بوريسلاف هيراك لن أتحدث ما لم أحصل على سيجارة، ترددنا، تطوع المترجم بإهدائه واحدة، طلب أخرى، أعطاه إياها، بدأت أسأله ويجيب، بدأ المصور في الانفعال مع كل ترجمة يقوم بها زميلنا، ثم يطلب من زميلنا المترجم أن يقول للجاني كيف ترتكب مثل هذه الجرائم في حق مستضعفات كنّ جارات لك، والجاني يرد ببرود أن هذا ما حدث، وأنا أحاول كبت غضبي من الاثنين، المجرم الذي يتحدث بهذه اللامبالاة، والمصور الذي يخرج عن سير العمل وقواعده ليدخل في جدال مع الجاني.

يتوقف المصور عن الجدال، أستمر أنا في الأسئلة، يواصل المترجم عمله، يحتفظ الجاني ببرود أعصابه الشديد ثم ينفجر المصور فجأة، ويطلب بلهجة حاسمة من المترجم أن يسأل الجاني، هل يرضى أن تتعرض أخته أو أمه لمثل هذه الجريمة؟ يتردد المترجم، ينفعل المصور في وجهه راجيًا إياه أن ينقل سؤاله، أترضاه لأمك؟ ثم يسود المكان دهشة من كل أطرافه، أنا من المشهد الذي خرج عن إطار التحكم فيه، المترجم الذي لم يعهد مثل ذلك، المصور من إجابات الجاني، والجاني مندهش أيضًا منا، فقد أجابنا مرات عديدة، نعم أرضاه لأمي!

أسعد طه

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد