الطريق لتنحية طاغية!

الثورة هي التي تُنقذ الدولة بتخليصها من القمع وتطهيرها من الفساد، أما بكائية أنها دولة ظالمة ويجب إسقاطها فيمكن أن تستمر ألف سنة دون أن تحقق سوى إعاقة الثورة وخدمة القمع.. ووضع الشعب بين سندان الاستبداد ومطرقة معارضيه.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/11 الساعة 06:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/11 الساعة 06:31 بتوقيت غرينتش

نُظم الحكم لدينا ساقطة أخلاقيا منذ أن بدأت بأول عملية تعذيب لمعتقل وقتلت أول مواطن ودبرت أول عملية تفجير لتبرير قمعها للمعارضة.. واستوردت أول شحنة أسمدة مسرطنة وأدوية مغشوشة.

كل مصري يُدرك ذلك ولا يحتاج اليوم لشرح المدى الذي وصل إليه فساد النظام الحالي ولأي قدر بلغ به الفشل، فتبديد معونة الخليج و600 مليار خلال 30 شهرا وتوقيع وثيقة سد النهضة التي تهدد البلاد بالعطش وتكشف مآسي مجزرة رابعة تكفي ليلعن أي شعب أي نظام وأي سُلطة.

كما إن تعذيب وقتل الباحث الإيطالي الشاب جوليو ريجيبني يجعل أي شخص بسيط يتصور ما يمكن أن يحدث لشباب مصر في معتقلات الانقلاب بعد أن طال التعذيب والتنكيل والقتل أجانب كنا نظنهم من أصحاب الحصانة.

ومع ذلك فإن الشعب الذي أسقط نظام ُمبارك، ولو مؤقتا، يقف حائرا أمام إسقاط نظام السيسي الأشد فشلا وقمعا؛ وهو ما يحتاج لتأمل ولدراسة ولتحقيق ممن يأملون في انتصار قيم الحرية وقواعد العدالة وزوال نظام الفساد والاستبداد.

ولا يجوز رد ذلك فقط لمستوى القمع، فإن يوما واحدا في 28 يناير شهد مقتل ما يفوق على 800 شهيد وإخفاء ما يزيد على 600 مختطف مازال أغلبهم لا يُعرف مصيره، ومع ذلك لم يعد الشعب لبيته حتى أسقط ما ظنه النظام.

فالسقوط الحقيقي لأي نظام حاكم بمصر لم يدخل لحيز آمال المواطن البسيط إلا مع جحافل المصريين الذين تدفقوا إلى ميدان التحرير في 28 يناير 2011 وتنحي الطاغية في 11 فبراير من نفس العام، إذ لم يستوعب الشعب أن بإمكانه إسقاط النظام مع الحفاظ على الدولة إلا أثناء الثورة، فقد خرج المنجمون وأبواق السلطة القمعية يهددون أن الدولة على شفا حفرة من الانهيار.. ثم اختبأت الشرطة إنذارا بأن السقوط قادم للجميع إن سقطتْ السلطة.

في هذه الأيام فقط أدرك المصريون الفارق بين النظام وبين الدولة.. وأن بإمكان الجماهير أن تُسقط النظام الفاسد بينما تحمي الدولة.. فوقف الثوار يحمون البنوك ومراكز المعلومات ودواوين الإدارة والمتاحف والمراكز التجارية والثقافية، وتشكلت اللجان الشعبية لحماية ما اعتبروه ملكا للشعب.

وكان استكمال التخلص من النظام مهمة الكيانات السياسية التي يُفترض أنها تعرف كيف تبني سلطة مكان سلطة، وكيف تستفيد من الزخم الشعبي لمنع القديم من العودة للانقلاب على الجديد، وأي فشل في ذلك لا يُرد إلى خطأ من الشعب بل لأخطاء نخبه وسذاجة سياسييه.

الحقيقة إن الجرأة التي يمارس بها النظام قمعه اللا إنساني وغير الأخلاقي يستند فيها لانتصار حققه خلال ثلاثين شهرا.. إذ أسر الكثيرين في سجن تلازمية السلطة والدولة، فأقنع البعض أن سقوطه يعني الفوضى، يعني سقوط الدولة، وساعد على ذلك جزء من الثوار أنفسهم.

فالبعض رفع صوته عاليا بأن هذه الدولة زالت وعلينا أن نهدمها ونقيم غيرها، فتلقف النظام الهدية ليُظهر أمام الشعب أن ثوار اليوم ليسوا هم ثوار يناير 2011، فهؤلاء لا يبتغون إسقاط النظام لإنقاذ الدولة كثوار يناير بل إسقاط الدولة ثمنا للتخلص من النظام!!

والدولة تعني للريف إدارة القناطر وتدفق مياه الترع وتوزيع البذور والأسمدة وتوريد القطن والقمح والأرز ومراكز الصحة بالقرى والمدارس بالكفور وتسجيل المواليد والوفيات.. وتعني في الحضر الدواوين والمصالح الحكومية التي تنظم حياة الناس، والأسواق والمؤسسات المالية وعملية إدارة العمران بإصدار الهويات والتراخيص والشهادات وجوازات السفر وإدارة مياه الشرب والكهرباء وشرطة الطرق والموانئ والإسعاف والنجدة وكافة مرافق التعليم والصحة والعدل.. إلى غير ذلك.

إنها إدارة من المهد إلى اللحد لا يُمكن أن تُقنع مصريا في أي قرية من قرى مصر أن إسقاط الدولة يعود بالنفع عليه، مهما شرحت له مدى الفساد المتفشي في اركان السلطة والجهاز الإداري والمالي وعمليات استيراد الأسمدة المسرطنة وانتهاك الشرطة لحقوق الشعب والتعذيب الممنهج وغياب العدالة في أروقة المحاكم.
لسبب بسيط لأن المصريين البسطاء يُدركون الفارق بين السلطة والدولة، وأن الدولة تفسد بسلطة فاسدة وتصلح بسلطة صالحة.. ويخشون إسقاط السلطة عندما يعتقدون أنه سيؤدي لإسقاط الدولة لأن مصر هي البلد الذي ابتدع مفهوم الدولة، فلم يعش شعبها في التاريخ المكتوب إلا في إطار دولة.

ولا يقرأ التاريخ من يعتقد أن الدولة المصرية زالت في كيان الخلافة مثلا، فعليه أن يُراجع نظام الحكم اللامركزي للخلافة الإسلامية، ليُدرك كيف أن كيان الدولة في مصر ظل نابضا حتى عندما أصبح جزءا من كيان أكبر.. فمصر الشعب الوحيد تقريبا الذي لم يعرف أشكال الإدارة العشائرية أو القبلية أو المذهبية أو الملية أو العرقية أو غير ذلك.. لا يعرف إلا الدولة.

ثورة في بلد كمصر رسالتها التطهير لا التدمير، والبناء فيها يكون على أصل راسخ قائم، أشبه ببناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام.. فهو إصلاح بالتطهير والتقويم والتوسعة والتقوية لا الهدم.. فالهدم لا يكون إلا لما لا يصلح البناء عليه، بينما دولتنا تحمل كل سمات الدولة العفية سوى أن بها سلطة قزمة لا يُمكن أن تُدير سوى كازينو للقمار في مدينة للمافيا.

المطلوب هو أن تصل الرسالة لكل مواطن أن الثورة هي التي تُنقذ الدولة بتخليصها من القمع وتطهيرها من الفساد، أما بكائية أنها دولة ظالمة ويجب إسقاطها فيمكن أن تستمر ألف سنة دون أن تحقق سوى إعاقة الثورة وخدمة القمع.. ووضع الشعب بين سندان الاستبداد ومطرقة معارضيه.
ربما أن الأمر يحتاج لضبط المصطلحات قبل مخاطبة الشعب..
لكنه بالنسبة للبعض يحتاج لضبط المفاهيم..

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد