نقابة الأطباء المصريين على صفيح ساخن!

اكتسب الحراك الشعبي بعدًا آخر في مواجهة الحكومة، خصوصًا بعد زيادة القبضة الحديدية للدولة، ودخول حركات شعبية أخرى إلى خط المواجهة المباشرة مع النظام. فعلى الرغم من افتقاده للتنظيم والقيادة الموحدة، إلا أن استمرار الحراك الشعبي رغم القمع، إنما يخلق حالة تراكمية من الغضب كفيلة بإبقاء جذوته مستعرةً.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/09 الساعة 04:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/09 الساعة 04:18 بتوقيت غرينتش

تصاعدت الأزمة بين نقابة الأطباء المصرية ووزارة الداخلية بعدما فشلت كل المحاولات لاحتواء الأزمة. وكان ثمانية من أمناء الشرطة قد قاموا قبل أيام بالتعدي على اثنين من الأطباء في مستشفي "المطرية" الحكومي وضربهما وسحلهما بعدما رفض الطبيبان تزوير تقرير طبي لصالح أحد أمناء الشرطة. ولم ينسَ أمين الشرطة أن يذكِّر الأطباء أن "الشرطة هم أسياد الكل" واضعًا قدمه فوق رأس الطبيب داخل قسم الاستقبال في المستشفى. وهددت نقابة الأطباء المصرية بالتصعيد والإضراب في كافة أنحاء الجمهورية إذا لم يتم محاكمة أمناء الشرطة..

وسرعان ما التفّ حول مطالب نقابة الأطباء العديد من الحركات الشعبية والنقابات والأحزاب معلنين رفضهم الصريح لانتهاكات الأمن ضد المواطنين. وقد أعلنت 150 نقابة مستقلة وحركة وحزبا إلى جانب العديد من الشخصيات السياسية والعامة تضامنهم الكامل مع نقابة الأطباء "في مواجهة بلطجة أمناء شرطة قسم المطرية". وفي بيان مشترك للمتضامنين أكدوا فيه أن "معركة نقابة الأطباء والطبيبين المعتدى عليهما هي معركة كل المصريين". وعلى الرغم من محاولات النظام التستر على الأزمة واتهام الأطباء بالتقصير في عملهم حتى أن جريدة الأهرام الرسمية كانت قد نشرت قبل أيام تقريرًا عن الجرائم التي يمارسها الأطباء في حق المرضى. وفي أحد البرامج التلفزيونية شن المذيع هجومًا حادًّا على أطباء مستشفى "المطرية" بعد تهديدهم بالاستقالة الجماعية قائلا "ياريت تستقيلوا.. هناك الكثير يبحثون عن عمل والعمل لن يقف عليكم"..

إلا أن التضامن مع نقابة الأطباء المصرية سرعان ما انتقل حتى إلى شباب "الفيسبوك" إذ نظم المدونون بيانًا تضامنيًّا بإمضاءات إلكترونية معلنين دعمهم الصريح لنقابة الأطباء في مؤشر واضح إلى التقاء المصالح الشعبية مع المصالح الفئوية في مواجهة النظام.

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تطالب فيها إحدى الفئات المهنية بمطالب سياسية في المقام الأول، إذ قام المحامون في وقت سابق بالاحتجاج على انتهاكات الشرطة ضد أفراد القضاة والنيابة بعد مقتل أحد المحامين إثر تعرضه للتعذيب في قسم الشرطة.

ولكن ما يميز تلك الأزمة الأخيرة بين نقابة الأطباء ووزارة الداخلية أنها جاءت بعد سلسلة من الانتهاكات المتكررة لأفراد الشرطة ضد المواطنين والعمال والموظفين في أماكن عملهم. وقد كشفت تلك الأزمة عن الدور الفعال الذي يمكن أن تلعبه النقابات والاتحادات المستقلة في تحريك الرأي العام في القضايا الشعبية. فعلى الرغم من المحاولات الحثيثة للنظام للسيطرة على النقابات المهنية واتحادات العمال والتلويح من قِبل وزير القوى العاملة بإقرار قانون جديد للنقابات المهنية لمواجهة النقابات المستقلة، إلا أن الكثير منها ظل بعيدًا عن التطويع والهيمنة السلطوية.

فبينما يصر النظام على قمع أي احتجاجات أو اضرابات فئوية بالقوة الأمنية مطلِقًا العنان للشرطة لتمارس البطش بحجة "مكافحة الإرهاب"، إلا أن التأثير التراكمي لتلك الاحتجاجات في الآونة الأخيرة ساهم في إعطاء زخم شعبي كبير لمطالب العمال والموظفين بعدما تلاقت المصالح السياسية والاقتصادية بين مختلف قطاعات الشعب. ولعل أزمة نقابة الأطباء الأخيرة والحراك الشعبي المصاحب لها من مختلف النقابات العمالية والمهنية المستقلة والأحزاب السياسية هي خير دليل على حالة الاحتقان العام التي وصل لها المواطن المصري بعد خمس سنوات من ثورة حلم فيها الجميع بالعدل والحرية.

الحراك الشعبي قبل 25 يناير 2011

وكان الحراك الشعبي في مصر قد لعب دورًا بارزًا في الإطاحة بنظام مبارك سنة 2011 ولكنه لم يكن الوحيد، إذ تلاقت المطالب السياسية التي تبنتها بعض الحركات الشعبية بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية سنة 2000 وحرب العراق سنة 2003 مع المطالب الاقتصادية للفئات العمال والمهنيين منددين بسياسات الخصخصة التي انتهجها النظام المصري منذ النصف الآخر من التسعينيات لتصبح الاحتجاجات التي تضم فئات عريضة من الشعب مظهرا يوميا في الشارع المصري. فعلي الرغم من الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته مصر منذ التسعينيات وارتفاع الاحتياطى الأجنبي في البنوك ولكن على الجانب الآخر ارتفعت معدلات البطالة وزادت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر حتى وصل إلى حوالي 40% من السكان وزادت الهوة بين الفقراء والأغنياء.

فالفترة من سنة 1998 إلى 2010 كان الشارع المصري قد شهد أكثر من 3400 وقفة احتجاجية شارك فيها أكثر من 2 مليون عامل وموظف، لعل أبرزها كانت لموظفي الضرائب العقارية وعمال غزل المحلة سنة 2007-2008. واستطاع موظفو الضرائب العقارية "ليَّ يد الحكومة" كما صرح وزير المالية وقتها "يوسف بطرس غالي" الذي رفض في البداية الإنصات إلى مطالب العمال، قائلًا إن الحكومة "لا يمكن ليَّ ذراعها" إلا أن إصرار العمال وتجمهرهم بالآلاف والتنسيق المستمر مع باقي عمال القطاع في مختلف المحافظات أجبر الحكومة على الانصياع لمطالبهم بعد تدخل مؤسسة الرئاسة مباشرا في إنهاء الأزمة.

وفي نفس الفترة شهد قطاع عمال العزل والنسيج في مصر احتجاجات عارمة في مدينة المحلة الكبري قام فيها العمال المتظاهرون بإنزال وتكسير لوحة عملاقة للرئيس الأسبق مبارك معلقة في الشارع الرئيسي للمدينة في إشارة رمزية لرفض النظام السياسي في مصر.

وكان النظام قد عمل على إحكام قبضته على الحركة العمالية في مصر منذ أكثر من ستين عامًا منذ قيام ثورة 1952 بتأميم النقابات العمالية وبناء اتحاد عمال مصر سنة 1959 خاضعا بالكامل لسيطرة الدولة. وتم استخدم هذا الكيان العمالي بواسطة الحكومات المتعاقبة في مصر لكسر الاحتجاجات العمالية وضياع حقوق العمال. وقد أدان اتحاد عمال مصر الكثير من الاعتصامات والإضرابات التي شهدتها الفترة قبيل ثورة 2011 ووضعت قيادات الاتحاد تحت رئاسة "حسين مجاور" العضو البارز في الحزب الوطني الديمقراطي نفسها في نفس خندق للنظام. إلا أن مخاض الاحتجاجات العمالية المتصلة أدت إلى تكوين العديد من النقابات المستقلة خارج عباءة النظام الحاكم.

وانتشرت ظاهرة النقابات المستقلة بشكل سريع في إشارة واضحة إلى رفض هيمنة النظام على الحركات العمالية ولا شك أن للنقابات المستقلة دورًا بارزًا في استمرار الحراك العمالي المستعر في الشارع المصري. وعلى الرغم من استجابة الحكومة المصرية من آن لآخر لبعض مطالب العمال المحتجين، إلا أن حمى الإضراب كانت قد انتشرت بين العمال والموظفين في مختلف قطاعات الدولة. وظل الشارع المصري في حالة غليان حتى وصلنا إلى مشهد يناير 2011 حيث تلاقت الحركات العمالية والطلابية والشعبية مع بعضها بعضًا مطالبين بتغيير النظام والاطاحة برئيس الدولة.

الحراك الشعبي بعد 25 يناير 2011

على الرغم أن الأجواء كانت مهيئة تمامًا لأحداث تغيير هيكلي في الدولة، إلا أنه لم يكن هناك نيه من قبل المجلس العسكري أو التيارات المختلفة التي شاركت في الثورة للنظر إلى مطالب العمال والموظفين، وتبنيها ضمن هيكل إصلاحي شامل للنظام بمؤسساته، إذ تم التعامل معها جماهيريا على أنها مطالب "فئوية" ليس وقتها الآن.

واستمرت المظاهرات العمالية في الشارع وانضمت إليهم مظاهرات من قطاعات أخرى مثل الأطباء والصحفيين والمعلمين وحتى جهاز الشرطة الذي استغل الزخم الثوري والحراك الشعبي لتحسين صورته لدى المواطن. وكانت صيحات أمناء الشرطة الذين قاموا بالاحتجاجات لتحسين ظروف عملهم وزيادة مرتباتهم هي "الشرطة والشعب إيد واحدة" على غرار الصيحات التي سادت فترة الثورة "الجيش و الشعب إيد واحدة".

وماطلت الحكومة المؤقتة في تنفيذ المطالب بحجة أن الوقت غير مناسب لمطالب "فئوية"، وساهم الإعلام الرسمي والخاص في تشويه الاحتجاجات العمالية واصفا إياها بالاحتجاجات "الفئوية" التي تعطل "عجلة الإنتاج". وعلى الرغم من الدور الفعال الذي قام به العمال في ثورة يناير، إلا أنهم لم يستطيعوا بناء قاعدة شعبية وجاء تمثيلهم في أول برلمان بعد الثورة هزيلًا وفقا للحصة المعمول بها للعمال والفلاحين في مجلس الشعب. ولم تكن الانتخابات الرئاسية 2012 أحسن حالاً إذ بالكاد حصل المرشح اليساري المدافع عن قضايا العمال "خالد علي" على 0.6% في أول جولة، بينما لم يحصل أبو العز الحريري على أكثر من 0.2% في الانتخابات.

حتى بعد تولي الإخوان المسلمين الرئاسة لم يتغير الوضع إذ قوبلت الاحتجاجات العمالية بمزيد من التجاهل بحجة أنها تعرقل "عجلة الإنتاج" وتسعى لإفشال الإخوان في الحكم. وواجه أنصار نظام الإخوان تهديدات العمال بالإضراب بحملة أطلقوا عليها حملة "شغلني مكانه" لإحلال العمال المعتصمين بآخرين.

ومع الإطاحة بنظام الإخوان في 30 يونيو/حزيران وتولي رئيس المحكمة الدستورية "عدلي منصور" الفترة المؤقتة صدرت العديد من القوانين التي جرمت التظاهرات وضيقت الخناق على الحياة السياسية والاجتماعية بحجة مكافحة الارهاب. كما عمل النظام بعد 30 يونيو على احتواء قيادات النقابات العمالية و المهنية المستقلة حيث جاء تولي "كمال أبو عيطة" أحد رموز الحركة العمالية في مصر ومؤسس النقابة المستقلة للضرائب العقارية ورئيس الاتحاد المصري للنقابات المستقلة منصب وزير القوي العاملة سنة 2013 بمثابة ضربة موجعة للحركات العمالية. وجاء دستور 2014 ليلغي حصة الـ50% الإلزامية للعمال والفلاحين في مجلس الشعب.

ومع الفشل الإداري للدولة بعد خمس سنوات على ثورة يناير 2011 في توفير الحد الأدنى من المطالب الجماهيرية والتلويح برفع الدعم عن السلع والخدمات الأساسية، والتراجع عن تطبيق قانون الحد الأدنى والأقصى للأجور، وإغلاق العديد من المصانع وتسريح العمال، وإقرار قانون الخدمة المدنية الذي يضع العامل والموظف تحت سطوة صاحب العمل بشكل مباشر، بعد أن كان فصله يتم بأمر قضائي، اكتسب الحراك الشعبي بعدًا آخر في مواجهة الحكومة، خصوصًا بعد زيادة القبضة الحديدية للدولة، ودخول حركات شعبية أخرى إلى خط المواجهة المباشرة مع النظام. فعلى الرغم من افتقاده للتنظيم والقيادة الموحدة، إلا أن استمرار الحراك الشعبي رغم القمع، إنما يخلق حالة تراكمية من الغضب كفيلة بإبقاء جذوته مستعرةً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد