للإنسانية سجلان، أحدهما يستحق أن يُكتب بمداد من ذهب، يبقى بريقه متلألأً، تفوح من متونه أزكى روائح العطاء، وتُخلّد أسماء من تربعوا فيه. وسجل آخر يحتوي الأقزام ممن أساؤوا للبشرية وخذلوها، صفحاته مجلجلة بالسواد والكآبة، عادة ما تكون صفته مرادفاً لسلال المهملات والقاذورات.
وعلى مدار الأزمنة.. تمرّ على هذين السجلين فترات مدّ وجزر، فيصعد مؤشر السجل الأول على الثاني فيكون ذلك إرهاصاً بالخير ودليلاً على شيوع السويّة والفطرة السليمة في حياة البشر. ويحدث العكس، فيرتفع مؤشر سجل الخزي والعار و(يتمطط) ويزداد اتساعاً فيكون ذلك علامة فارقة في دنيا الناس ونذير شؤم بأن قيم الشرف والمروءة تحولت إلى خانة الندرة وحلّت مكانها ظواهر مقيتة لا تعرف للكرامة قدرها ولا تفزع للحقوق ولا تجزع للإغاثة ولا تعرف للتضحية منزلة.
ولعلّ عصرنا الحالي قد وصل السجل الثاني فيه إلى مراتب قياسية، تزاحمت فيه الأسماء من كثرتها، وأصبح الاعتداء على حق الحياة أمراً لا يثير شفقة، ولا يدعو لاحتجاج ولا يرتب لمبادرة حقيقية تحفظ الحقوق والأرواح وتمنع التخاذل والتواطؤ وتتغلّب على المصالح لتنتصر المبادئ.
وفي زحمة الانغماس في هذا السجل؛ تظهر علينا بين حين وآخر أسماء تفرض نفسها في السجل الآخر، السجل الأول، سجل الشرفاء والأبطال، تسلب قصصهم الأنظار وتستدعي مواقفهم الإبهار. ومن هؤلاء السيدة "كونسبسيون توماس" المعروفة باسم "كونسويلا" التي تعود أصولها إلى أميركا اللاتينية، لها موقف ترتب عليه أن تكون -ربما- صاحبة أطول اعتصام في عصرنا الحاضر.
بدأت قصة اعتصامها في العام 1981 ثم تطوّر في أعقاب مذبحة صبرا وشاتيلا حيث قررت أن تعتصم في خيمة بلاستيكية صغيرة أمام البيت الأبيض احتجاجاً على حمام الدم الذي ارتكبه الصهاينة بحق الفلسطينيين، وأن تحمل على عاتقها الدفاع عن قضيتهم واستنكار ما يجري في حق أبناء الشعب الفلسطيني من تشريد وقتل واعتقال.
اتخذت "كونسويلا" من خيمتها محلًّا لإقامتها ومعيشتها الدائمة منذ ذلك الحين، تعاقب على سدّة البيت الأبيض عدد من الرؤساء الأميركان، يتغيرون لكنها بقيت ثابتة في محلها، عنيدة في فكرتها المناهضة للحرب الصهيونية على فلسطين حتى أصبحت أحد المعالم المهمة والمعروفة المحيطة بالبيت الأبيض، يلمحها الكثيرون من زوار هذا البيت ويلتقط بعضهم الصور معها قبل أن يطّلع على بضع لافتات وصور وشعارات علّقتها في خيمتها وبالقرب منها، تدعم بها المقاومة الفلسطينية وتندد بالاعتداء عليهم، هذا العمل كان هو كل حياتها ونشاطها. وتقول لضيوفها وزوارها "إن سكوت العالم على إسرائيل أمر مخز، ولا يجوز الصمت عليه للأبد، وإن المقاومة هي الحل".
"كونسويلا" التي ناضلت واعتصمت لفلسطين في خيمتها البلاستيكية منذ العام 1981 غادرتها يوم الثلاثاء الماضي عندما فارقت الحياة عن عمر ناهز السبعين عاماً، قضت منها (34) عاماً في تلك الخيمة البسيطة لم تتحلحل منها قط، تضامناً مع الشعب الفلسطيني، في واحدة من قصص التضامن التي تستحق أن نشير لها بالبنان، نفخر بها ونحدّث أبناءنا عنها، ونقول لهم إن قضية احتلال فلسطين لا تموت بالتقادم ولا تتأثر بالتراكم، وإن نسيها أو تجاهلها البعض أو اعتاد الناس على القبول بالأمر الواقع ودبّ اليأس والإحباط بشأنها؛ إلاّ أنها ستبقى على الدوام قضية يفزع لها على الدوام الشرفاء والأحرار، لن يبخلوا عليها بدعمهم والانتصار لمبادئ الحق والعدالة فيها حتى لو قضوا جلّ أعمارهم لأجلها مثل السيدة
"كونسويلا".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.