كتب المؤرخون أن معركة بلاط الشهداء بين المسلمين والمسيحيين تقع بالقرب من مدينة Poitiers
"بواتييه" الفرنسية، المدينة التي زرتها عبر برنامج يرسل الصحفيين إلى المدارس الثانوية ليتحدثوا عن تجاربهم في الصحافة والأحداث التي تمر بها بلدانهم، بالتعاون مع بيت الصحفيين في باريس.
وصلت إلى "باوتييه" وكان ينتظرني أحد المدرسين حاملاً لوحة كتب اسمي عليها، اعتذرت عن التأخير وأبلغني أنه أمر عادي طالباً مني الاسترخاء حتى نصل المدرسة، وفي الطريق راح يحدثني عن أبرز معالم المدينة ومنها Futuroscope "فوتورسكوب"، وحدثني أيضاً عن أكلات المدينة الشعبية ومهرجاناتها وغيرها..
وصلنا إلى الثانوية في" شاتورو"، حيث كان ينتظرني ما يزيد عن الأربعين طالبا تتراوح أعمارهم بين الخمسة عشر والسبعة عشر عاماً وبعض المدرسين والصحفيين..
بدأت المحاضرة بالاعتذار عن التأخر، حيث لم ألحق بالقطار الأول، فاضطررت لحجز تذكرة سفر في القطار اللاحق، وأضفت مازحاً هذا أمر عادي بالنسبة لشاب عربي، وضحكوا.
ثم تحدثت سريعاً عن تجربتي بين السعودية وسوريا، وخروجي إلى الأردن حتى وصلت إلى باريس.
بعد ذلك تلقيت الأسئلة، ومنها لماذا تعتقد أن الشعب السوري خرج بثورة ضد نظام الأسد؟ وأجبت لسببين، الأول التدخل الدولي في ليبيا حيث اعتقد السوريون أن زمن المجازر الجماعية انتهى، والثاني النظام نفسه، والذي تصرف بعنف مفرط مع المظاهرات السلمية، واستفز مشاعر الناس بخطاباته وإعلامه، سارداً قصة أطفال درعا الشهيرة وما قاله ابن خالة الأسد عاطف نجيب لوجهاء درعا، مشيراً إلى أني التقيت أحد الأطفال وهو عبد الرحمن أبو زيد في الأردن وقمت بتصويره، للتأكيد على الحادثة.
طالب آخر سألني عن وسائل التعذيب في المعتقلات السورية، وطلب أن أتحدث عنها إذا لم يزعجني الأمر، فأجبت أنه لا يزعجني لكنه سوف يزعجكم بالتأكيد، وتحدثت عن الفرع 215 الأمن العسكري بدمشق، والذي اعتُقلت فيه لمدة شهرين لم أستحم خلالها، وعن قمل الجلد الذي كان يملأ أجسادنا، وكيف كنا نرتدي ملابسنا بالمقلوب حتى نخفف من لسعه الدائم لأنه يعيش في عقد ووصلات الأقمشة.
تحدثت وأنا أراقبهم حتى باشروا بالتحرك على كراسيهم وبحك أجسادهم، ثم انتقلت إلى وسائل التعذيب وصراخ المعتقلين وسوء الطعام وتلوثه، ولاحقاً عن تدهور حالة المعتقل الذي بقيت أتابع أخباره بعد أن خرجت منه، وظهور حالات تفسخ بالجلد وموت جماعي، مخبراً الطلاب أنه ذات الفرع الذي سربت منه الصور الشهيرة، طالباً منهم قراءة شهادة سيزر -وكان بعضهم قد قرأها- عن الصور المسربة، وأثناء مراقبتي للطلاب وأعينهم وردات فعلهم، رأيت أن أشد ما آلمهم حديثي عن لاجئة سورية في فرنسا، تقضي يومها في البحث عن صورة زوجها المعتقل بين آلاف صور القتلى.
أما السعودية والتي عشت فيها طويلاً، فنصيبها من الأسئلة كان أقل، ومن أبرز الأسئلة التي وجهت لي عنها، سؤال من طالبة عن رأيي بوضع المرأة هناك، وأجبت أنه يشبه وضع المرأة الأوروبية في العصر الفيكتوري، والذي تحدث عنه الفيلسوف ميشيل فوكو، حيث تم عزل الرجال عن النساء، فوضعوا الستائر في صالات الطعام وغيرها لحجب الرؤية، ويعلق فوكو بأن كل وسائل العزل المستخدمة كانت تذكر بالجنس ذاته.
وهو ما ينطبق اليوم على وسائل العزل في السعودية، فسيارة الهيئة التي تحضر في الأسواق ويطلق على رجالها "حراس الفضيلة" تعني أنها موجودة لمنع "الرذيلة"، وهي الممارسة الجنسية وكل ما يؤدي إليها. وهكذا يتم اختصار المرأة بكل ما تحمله من نزعات وعواطف بشرية، بالجنس وممارسته في المجتمع الذكوري.
عقب المحاضرة ذهبت برفقة الأستاذة المنظمة وتجولنا في مدينة "شاتورو"، ثم اتجهنا إلى منزلها حيث لحق بنا مدرس آخر بصحبة عائلته، تناولنا طعام العشاء وحدثوني عن بلاط الشهداء، وطاولات رسمت عليها جيوش ووضعت في مكان المعركة مزودة بالأزرار الإلكترونية، إذا لمسها الزائر تتحدث عبر سماعات عن المعركة وتاريخها وما يخصها من أحداث، وبعد منتصف الليل خرجت مع المدرس وعائلته لمنزلهم الكبير، حيث قضيت ليلتي هناك.
في اليوم التالي صباحاً جاءت مدرسة أخرى لنقلي إلى ثانوية "فيكتورهوغو" أكبر ثانويات مدينة "باوتييه"، وفي المدرسة اصطحبتني فرنسية من أصول جزائرية لأشاهد الثانوية وأقسامها المتنوعة من راديو ومكتبة وغرفة للموسيقى وغيرها. المدرسة كانت مستشفى وبعد الحرب العالمية الثانية تم تحويله لثانوية، وعُلقت على جدرانها صور للمستشفى وتركت بعض الأدوات القديمة في ممراتها منها بيانو للعزف، بالإضافة لصور جماعية للأطباء، وأخرى حديثة للأساتذة تُلتقط مع بداية كل عام دراسي.
بعد أن تناولنا الغداء، بدأت المحاضرة لثلاثين طالب تقريباً، أما أسئلتهم فلم تختلف كثيراً عن طلاب "شاتورو"، وبالعموم وجدتها أسئلة عقلانية تبحث عن إجابات منطقية، وعن حافز أكبر للبحث عن المعلومة.
وبالرغم من إدلائي برأيي بكل شاردة وواردة خارج المحاضرتين، إلا أني اختصرت الحديث عن المعركة التي خسرها أجدادنا بسرد ما قاله صديقي اللاجئ السوري عندما مر بالمدينة وهو قادم من إسبانيا متجهاً إلى السويد، حيث قالوا له هنا خسر العرب معركة بلاط الشهداء، فأجاب "الحمد لله أنهم خسروها وإلا أين كنت سألجأ؟".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.