نموذج حكم العلماء في الدولة الإسلامية الحديثة 6/8

وقد يُظن أن هذا النموذج الذي يحاول إخضاع السياسي للديني، عبر هيمنة الفقهاء على السلطة السياسية يمثل توجهًا خاصًّا بالفكر السياسي الشيعي، لطبيعة مبادئه العقائدية والفقهية، لكن هذا الزعم -كما أشار بعض الباحثين- يتجاهل حقيقة أن شرط "العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام" هو شرط معتبر عن عموم علماء السنة لمنصب الخلافة

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/27 الساعة 00:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/27 الساعة 00:54 بتوقيت غرينتش

بالرغم من أنه في النموذجين السلطوي التقليدي والديمقراطي التحديثي للدولة الإسلامية، كان للعلماء والفقهاء دور مهم في تعريف ما هي الشريعة، وفي تفسيرها وتطبيقها، إلا أن هذا الدور في مجمله كان دورًا رقابيًّا إشرافيًّا، وهو عكس ما تقدمه هذه النظرية شبه الثيوقراطية (حكم علماء الدين)، والتي تُخضع السياسي للديني، وتعطي للعلماء والفقهاء السلطة الحقيقة.

سواء بممارسة الفقهاء السلطة السياسية بذواتهم، أو هيمنتهم على من يمارسها هيمنة تامة، لتجعل من وظيفة هؤلاء الحكام أقرب للوظيفة الإدارية لا السياسية، كما عبَّر عن ذلك الإمام جعفر الصادق بقوله "الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك"، ويتجلى هذا النموذج في أشهر النظريات السياسية الشيعية المعاصرة، نظرية ولاية الفقيه.

ولا يمكن فهم هذه النظرية دون إلقاء الضوء على النظرية السياسية وتطورها عند الشيعة الإمامية، فنظام الحكم في الإسلام عند الشيعة ديني ثيوقراطي، بعكس المدرسة السنية التي تكون الخلافة فيها منصبًا مدنيًا، وإن كانت له وظائف دينية، فبالرغم من تقارب تعريف الإمامة عند الشيعة والسنة، حيت تُعرَّف عند الشيعة أنها "خلافة شخص من الأشخاص للرسول -صلى الله عليه وسلم- في إقامة قوانين الشرع وحفظ حوزة الملة على وجه يجب اتباعه على كافة الأمة"، بينما عرَّفها الإمام الماوردي أنها "موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"، إلا أن الشيعة رتبوا على كون الإمامة امتدادًا للنبوة، وأنها استمرار لوظيفتها، أن لها مرتبة دينية، إذ إن حفظ الشرع من التحريف أو الخطأ أو الزلل يقتضي عصمة هذا المنصب، والعصمة تقتضي الوصية، بمعنى أن يُنص على الإمام من سلفه، وأن يكون نصبه من قبل الله تعالى، وبهذا تكون الإمامة دينية ثيوقراطية من حيث مشروعيتها ومن حيث وظيفتها.

بيد أن غيبة الإمام الثاني عشر ونوابه، أو ما عرف بالغيبة الكبرى، عام 329هـ، شكلت تحديا لهذه النظرية، ليدخل الفكر السياسي الشيعي الإمامي مرحلته الثانية، والتي استمرت منذ القرن الرابع إلى القرن العاشر الهجري، والتي يمكن أن تُعرف بمرحلة "الانتظار السلبي"، إذ إنه مع غياب الإمام المعصوم والمنصوص عليه تصبح السلطة القائمة غير شرعية، وبالتالي تراوح موقف الفكر الشيعي الإمامي من هذه السلطة بين اعتزالها تماما، أو التعامل معها للضرورة، أو جواز التعاون معها في الحق، وإن اتفق أصحاب المواقف الثلاثة جميعا على عدم الاعتراف بشرعيتها.

ومع اتخاذ الدولة الصفوية المذهب الشيعي الإمامي مذهبا رسميا لها في القرن العاشر، وانفتاح الأفق السياسي، انتقل المذهب إلى مرحلته الثالثة، والتي استمرت حتى القرن الثالث عشر الهجري، وبدأ فيها التمايز بين مدرستين: مدرسة الإخباريين، والذين نادوا باستمرار "الانتظار السلبي" لعودة الإمام الغائب، ورفض بدعة الاجتهاد، والإصرار على بقاء الفقهاء كمرشدين روحيين فقط، ومدرسة الأصوليين، والذين رجعوا إلى الأصول العريضة للإسلام، وأعطوا لأنفسهم حق الاجتهاد، ونادوا بدور سياسي نشط للفقهاء باعتبارهم نواب الإمام، وهي المرحلة التي ولدت فيها نظرية ولاية الفقيه علي يد فقهاء مثل نور الدين بن عبد العالي الكركي، والمحقق أحمد النراقي.

ويدخل الفكر السياسي الشيعي الإمامي مرحلته الرابعة مع أوائل القرن الرابع عشر الهجري، بازدهار ونضوج بذور الاجتهاد الفقهي والسياسي الفكري، وهيمنة توجه "الانتظار الإيجابي" بين الفقهاء، ويعتبر البعض كتاب الشيخ محمد حسين النائيني "تنبيه الأمة وتنزيه الملة"، والذي كتبه عام 1909م، هو فاتحة هذه المرحلة، إذ قدم فيه تأصيلا شرعيًّا ومنطقيًّا ليس فقط للدور السياسي للفقهاء في زمن الغيبة، بل وللأمة كذلك -ربما لأول مرة في الفكر الشيعي الإمامي- وذلك تأثرا برياح الليبرالية الدستورية التي هبَّت على المنطقة في هذه الفترة، حيث نص فيه على أن منع الحكم المطلق هو فريضة دينية، وأنه في غياب العصمة التي تجعل السلطة عادلة، فإن البديل البشري الطبيعي -حتى مع مغصوبية المقام- هو في إيجاد دستور وافٍ، وإحكام المراقبة والمحاسبة عبر مجلس شوري تمثيلي، يشارك فيه النواب العاميون للإمام (الفقهاء)، بحيث تكون ترجيحاتهم ملزمة شرعًا.

أما العمل الثاني الذي يعد صاحب التأثير الأبرز في هذه المرحلة، هو كتاب الحكومة الإسلامية للإمام الخميني، وهو عبارة عن تجميع محاضرات ألقاها بالنجف عام 1965م، وفيه فصَّل الخميني لنظرية ولاية الفقهيه، واستدل عليها، وحدد صفات الولي الفقيه ووظائفه. وأهم ما أضافه الخميني في هذه المحاضرات، هو تأكيده على إلزامية إقامة الحكومة الإسلامية، والتأكيد على سلطة الفقهاء بشكل لا لبس فيه. فالقول بالانتظار السلبي لعودة الإمام -وقد مرت على الغيبة الكبرى ألف عام، وقد تمر ألوف أخرى من السنين- هو أسوأ من القول بنسخ الإسلام، و"الفقهاء العدول هم وحدهم المأهلون لتنفيذ أحكام الإسلام وإقرار نظامه، وإقامة حدود الله، وحراسة ثغور المسلمين".

وقد يُظن أن هذا النموذج الذي يحاول إخضاع السياسي للديني، عبر هيمنة الفقهاء على السلطة السياسية يمثل توجهًا خاصًّا بالفكر السياسي الشيعي، لطبيعة مبادئه العقائدية والفقهية، لكن هذا الزعم -كما أشار بعض الباحثين- يتجاهل حقيقة أن شرط "العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام" هو شرط معتبر عن عموم علماء السنة لمنصب الخلافة، بمعنى أن المرشح لمنصب الخلافة يجب أن يكون عالمًا مجتهدًا، بالرغم من تخلي أهل السنة والجماعة منذ نهاية الخلافة الراشدة عن هذا الشرط، وبالتالي لا غرابة أن نرى نماذجَ من أهل السنة تحاكي نموذج ولاية الفقيه الشيعية، وتتبنى منطقا مقاربا لمنطقها، مثل نموذج الحكم الإسلامي لحركة طالبان.

فكما أشار الأستاذ فهمي هويدي في كتابه "طالبان، جند الله في المعركة الغلط" أن قيادات الحركة كانت بمجملها من طلبة العلم الشرعي الشباب، وعندما ناقشهم في كونهم غير مؤهلين للمناصب التنفيذية العليا التي يتبوأنها (كوزراء أو حكام أقاليم)، أجابوه بأن الملا عمر يرى "أن الفقهاء يستطيعون النهوض بأي مسؤولية يكلفون بها، ذلك أن معرفتهم بالعلوم الشرعية توفر لهم مرجعية وخلفية تمكنهم من تبيان حدود الخطأ والصواب في مجالات النشاط الإنساني كافة.. وأن الولاة في الدولة الإسلامية كانوا يختارون بناء على مقدار الثقة في استقامتهم وورعهم وإحاطتهم بأمور الحلال والحرام، وليس بناء على تخصصاتهم العلمية وشهاداتهم".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد