برأي حاسم دون أولا التعمق في الموضوع وثانيا التدبر في عواقبه. وهذا التدقيق في واقع الأمر مسؤولية الكاتب ومسؤولية مهام هيئات التحرير في الصحف والمواقع الإلكترونية..
قرأت مؤخرا مقالا بدأه كاتبه بذكر خلاصة لمقال كتبه كاتب أجنبي آخر وصفه كاتبنا بالخبير وتتمثل هذه الخلاصة أن مؤسسة ما (أ مثلا) تفشل في مهامها دوما منذ نشأتها في كل الدول العربية، ثم راح كاتبنا يستعرض بعض الشواهد ليدلل بها على صحة خلاصة الخبير الأجنبي (بعضها ذو صلة لكن بعضها الآخر يحتاج بالطبع إلى أخذ أبعاد مختلفة وسياقات الكلام في الحسبان..)، وبعدها انتهى كاتبنا إلى نتيجة مفادها أن زوال (أ) خير من بقائها، هكذا وبكل بساطة.
من الأسباب الأساسية لتأخر الدول هو عدم تقدير العلم واحترام التخصص. ومن مظاهر هذا الأمر سلوك بعض المثقفين وأساتذة الجامعات والصحافيين. فالانترنت والفضائيات أوجدت كتابا يكتبون في أمور كثيرة ومتنوعة دون دراية كافية. فقراءة مقال أو اثنين أو حتى كتاب أو اثنين في موضوع ما لايؤهل صاحبه لكتابة مقال في الموضوع وينشره على القراء اللهم إن كان مجرد عرض بسيط لفكرة بسيطة.. أما تحليل حدث ما أو إبداء رأي في قضية شائكة بشكل حاسم فلا يمكن الاعتماد فيه على قراءات سريعة وسطحية..
وفي الدول التي تعرف قيمة العلم وتحترم التخصصات لا يتحدث ولا يكتب في موضوع ما إلا من تخصص فيه.. والتخصص يعني أن الشخص يفهم بقدر من العمق في الموضوع الذي سيكتب أو يتحدث فيه، وهذا الفهم عادة يأتي إمّا من دراسة في جامعة بشكل مكثف والحصول على شهادة جامعية متخصصة في الموضوع أو من خلال الإطلاع لسنوات طويلة وبشكل معمق على تفاصيل وأبعاد الموضوع. وفي الحالتين يكون المتخصص على دراية عميقة بأمهات الكتب التي صدرت وبالإضافات التي قدمها كبار العلماء وآخر البحوث التي قدمت في الموضوع، ويكون في الغالب أيضا على صلة دائمة بالمؤتمرات العلمية وورش العمل والندوات ذات الصلة.
وفي السياسة على وجه الخصوص هناك اليوم أكثر من ٤٣ تخصصا فرعيا حسب الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية. ولا يوجد أستاذ سياسة عام يفهم في كل السياسة، ولا يوجد صحفي في الشأن السياسي كله.. وهناك فرق بين المعلومة، والرأي، والتحليل. لابد من تحري الدقة في تقديم المعلومة، والرأي يجب أن يستند إلى حد أدنى من الفهم والإحاطة بالأبعاد المختلفة للموضوع، أما التحليل السياسي فليس مجرد تجميع من هنا ومن هناك كما يتصور البعض.
ولهذا الموضوع صلة بانتشار الترجمات على الانترنت. بالطبع الترجمة جزء مهم للغاية في نقل المعرفة ويجب دعمها، لكن الكثير من الترجمات يفتقد الدقة وفي بعض الحالات تترجم مفاهيم أو عبارات بعكس معناها في النص الأصلي وهذا أمر لا يدركه إلا المتخصص. كما أن الترجمات تتم لجزء يسير من الأعمال ذات الصلة بالموضوع وبالتالي لا يمكن لشخص أن يعتمد في تخصصه على الأعمال المترجمة المتاحة فقط.
ولطرق التدريس والبحث صلة بالموضوع أيضا. ففي أقسام العلوم السياسية بالجامعات الحديثة تعتمد المناهج على القراءات المعمقة والتفكير النقدي والأعمال البحثية والنقاشات المكثفة. وطالب الدراسات العليا يقرأ على الأقل في كل مقرر كل أسبوع نحو ستة أو سبعة دراسات علمية أو فصول. ولهذا يكون الخريج بمجرد تخرجه ملما بأصول ما كتب في كل موضوع ولديه القدرة على مواصلة القراءة والفهم، والأهم من هذا لا يكون له الجرأة في التحدث في موضوع لم يقرأ فيه لأنه أدرك قيمة التخصص والعلم…
أما جامعاتنا ومقرراتها الجامعية ومراكزنا البحثية ومعاييرها في البحث والكتابة فغنية عن التعريف..
ليس هذا بالأمر الهين، فهذا النمط من الكتابة ومن الاستنتاجات يترتب عليه تداعيات سلبية كثيرة، وكتاب الصحف والمواقع الإلكترونية لهم أتباع كُثر من الشباب وهم يُسهمون في تشكيل وعي الجماهير بشكل أو بآخر. وكم من نصائح قدمها أساتذة جامعات وصحفيون وكتاب كبار وصغار أسهمت في خراب بلادنا عبر العقود الأخيرة وحتى اليوم.
وقد أثبتت ثورة يناير أن التقديرات الخطأ والنصائح غير الدقيقة والاستنتاجات السريعة والجرأة في الإدلاء بالرأي أو في اتخاذ الموقف لها نتائج كارثية.
الكلمة أمانة والرأي الذي يصل للناس أمانة. وللرسول عليه السلام حديث جاء فيه: "إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة -مِنْ رضوان الله- لا يُلْقِي لها بالاً، يرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة -من سَخَط الله- لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في جهنم). والله أعلم.
هذا المقال نشر علي موقع البديل هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.