لغز بقاء بشار الجعفري في الأمم المتحدة

لقد نسي السوريون خلال السنوات الخمس الماضية من زمن القتل الجماعي، والقصف اليومي، وحملات الحصار والتجويع، والحملات الإعلامية لتشويه سمعة شعب خرج ليطالب بحريته.. ما هو الفارق بين النظام والوطني أو القمعي؟ ورأوا رغم كل المقارنات التي مرجعياتها سلوكيات الاحتلال الإسرائيلي وغيره، أو الانتداب الفرنسي أو البريطاني وغيرهما، أن سلوكيات "الاحتلال" نفسه، أقل توحشاً وهمجية وجنوناً، ووقاحة بالمجاهرة بكل ما كانت تقوم به!

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/12 الساعة 02:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/12 الساعة 02:35 بتوقيت غرينتش

ثمة فارق كبير بين ممارسات نظام استبدادي قمعي، وبين ممارسات سلطات الاحتلال. وثمة فارق أيضاً بين ممارسة سلطات احتلال يضع العالم ضوابط لها، وتعرف هي أنها يمكن أن تحاسب على "إفراطها" في ارتكاب الجرائم، وبين سلطات احتلال بعد خمس سنوات من القتل اليومي، والتهجير، وحصار المدنيين وتجويعهم، وقصف بيوتهم ومدارسهم ومشافيهم، ما زال مندوبها مرحباً به في الأمم المتحدة.

اللغز الحقيقي الذي لم يستوعبه السوريون في السنوات الثلاث الأولى من ثورتهم، وخصوصا بعد جريمة الكيماوي في غوطتي دمشق هو: ما الذي يفعله بشار الجعفري على مقعد سورية في الأمم المتحدة؟
باسم من يتحدث؟ من يمثل؟! إذا كان يمثل نظام بشار الأسد "الوطني" فلماذا لم يعلن يوماً أسفه على سقوط الضحايا السوريين؟ لماذا لم يقف دقيقة حداد على شهداء مجازر الحولة أو القبير أو داريا أو مجازر الكيماوي والسكود والكلور، ما دام من فعل هذا كله هم "الإرهابيون" الذين تقاتلهم دولته؟!

لماذا لم يفكر بأن يقدم مشروعاً لأي منظمة إنسانية، أو يتواصل مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين كي يتابع أحوال وشوؤن رعايا ومواطني الدولة التي يدعي تمثيلها في الأمم المتحدة، والتي توافق الأمم المتحدة على التعامل معه باعتباره ناطقاً باسمها؟!

من السهل حل هذا اللغز، بفكرة أن "السياسة لا أخلاق فيها" وأن الدول الكبرى توافقت على بقاء النظام والسكوت على جرائمه، وادعاء عجزها عن اقتلاعه بسبب الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن، وأنه لا بديل إلا الحل السياسي التفاوضي.. لكن من الصعب حل لغز أنه كيف يمكن توكيل الجلاد بالنطق باسم الضحية.. وكيف يمكن لهذا المندوب أن يعمل كل ما في جهده لرفض فتح ممرات إنسانية خلال القتال الدائر.. ويستقوي على ذلك بالفيتو الروسي، أو يعتبر مثلا أن فرض النظام لسياسة التجويع بحق مدنيين، هو أمر في مصلحة أبناء بلده!

إن المشكلة الحقيقية التي واجهها السوريون هو اعتبار نظام الأسد نظاماً وطنياً بشكل من الأشكال.. في حين لم يترك هذا النظام وسيلة من وسائل وممارسات أسوأ أنظمة الاحتلال في التاريخ، إلا ومارسها في محاولته اليائسة لوأد ثورة الشعب السوري ضده.

أفهم أن يلاحق النظام معارضيه باعتباره نظاماً قمعياً، أفهم أن يقاتل من رفع السلاح في وجهه على اعتبار أنه دفع بكل قواه منذ البداية، كي يُخرج الثورة عن سلميتها، ويجد هذه "العصابات المسلحة" ليغطي خلال حربه ضدها على واقع الثورة الشعبية ضده. لكنني لا أفهم كيف يمكن أن يتصرف حتى مع المؤيدين الواقفين معه، أو أولئك الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها وقد غدت منطقتهم خارج سيطرة النظام!

تحدث الشيخ الجليل كرّيم راجح في إحدى خطبه في مسجد "الحسن" بحي الميدان الدمشقي في الأسابيع الأولى للثورة عن أخلاق الاحتلال الفرنسي لسوريا، وعن ذاكرته كفتى يتذكر كيف كان هؤلاء الجنود الغرباء المحتلين للبلاد، يقفون عند أبواب الجوامع عندما يلجأ إليها متظاهرون أو ثوار، معتبرين دخولها خطًّا أحمر في قوانينهم القمعية.. في الوقت الذي كان نظام الأسد، يقصف الجوامع ويهدمها فوق رؤوس المصلين.

لم يجترئ الأسد على المكانة الدينية للجامع فحسب، بل ضرب عرض الحائط بالقيمة التاريخية والأثرية، حين هدم وأحرق جوامع بعضها يعود إلى أكثر من ألف سنة أو لبضعه قرون، كالجامع الأموي في حلب، والجامع العمري في درعا، والجامع الكبير في سرمين وسواها.

تقنيات القتل الجماعي التي استخدمها الأسد على مر خمس سنوات، ومنها البراميل المتفجرة "الغبية" التي عندما كانت تلقى على المدن والبلدات، وعلى الأحياء المحررة في حلب والمتاخمة للأحياء الخاضعة لسيطرة النظام، كثيراً ما كانت تخطئ الهدف، وتذهب إلى المواطنين المؤيدين الذين يرفعون رايات النظام، ويرددون أحاديث المؤامرة الكونية.. لكن النظام لم يكن حريصاً على أرواحهم يوماً، بل عاملهم كما يعامل المحتل أبناء المناطق التي يحتلها بالقوة، دون أن تهمه سمعته لديهم، أو رأيهم فيه!

تقنيات التجويع وفرض الحصار الخانق، والتي يرى العالم اليوم -بصمت مخجل- آثارها المروعة في مناطق بريف دمشق عرفت تاريخيا بأنها الأرض التي تفيض بالخير، كالزبداني ومضايا وبقين ومن قبلها الغوطة الشرقية ومخيم اليرموك.. هذه السياسات التي مارستها إسرائيل ضد غزة، ومارستها مليشيات حركة "أمل" الشيعية ضد مخيمات الفلسطينيين في لبنان في الثمانينيات تنفيذا لقرار الاحتلال الإيراني-السوري للبنان، لا يمكن أن تصدر عن نظام يعتبر نفسه مسؤولا حتى -شكليا- عن شعبه الذي يمثله في الأمم المتحدة!

تقطيع المدن التي تخضع لسيطرة الأسد اليوم بالحواجز العسكرية، وتحويل حركة الناس اليومية لمعاناة دائمة.. سياسة يستعيرها الأسد من سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي طبقها في القدس والضفة الغربية. حيث استحالت حياة الناس في دمشق على سبيل المثال لا الحصر، إلى كابوس يومي.

ووصل الأمر ببعضهم إلى عدم تمكنه من الذهاب إلى العمل، إذا كانت بطاقة الهوية الشخصية محتجزة لدى جهاز من أجهزة النظام، لأنه لا يستطيع أن يمر على الحواجز التي نصبت حتى على مداخل الحارات في دمشق القديمة، وتحولت أحياء بكاملها إلى سجن كبير، يجب أن تضع بطاقة هويتك الشخصية عند عناصر الحاجز خلال مدة مكوثك فيه.. ناهيك عن فساد عناصر الحواجز وسلب الناس -المصنفين كمؤيدين- أموالهم، أو إجبارهم على دفع إتاوات للمرور!

حالات جمع الشبان من الشوارع أو من وسائل النقل الجماعية، وأخذهم إلى القتال أو إلى أعمال سخرة بالقوة والإكراه، وتحت وابل من الشتائم والتنكيل.. لا يمكن أن تقوم بها إلا سلطات احتلال.

حالات إخراج الناس من البيوت التي استأجروها في دمشق على الهوية، لمجرد أنهم من أبناء ريف دمشق، ووصفهم بأنهم أبناء "بيئة حاضنة للإرهاب" استخدمتها إسرائيل في القدس ومناطق عام 1948 لمنع دخول العمال الفلسطينيين العرب.. كما استخدمتها قوى الاحتلال بحق الشخصيات الوطنية لنفيها وإبعادها في عهود ماضية، ومن نافل القول إن نظاماً استبدادياً، ما زال يشعر بمسؤولياته كدولة تجاه رعاياه لا يمكن أن يلجأ إليها.

حالات إبعاد المدنيين والمقاتلين في تسويات ترعاها الأمم المتحدة أو غيرها، ومنع عودة أهالي حمص القديمة إلى مدينتهم المدمرة… أيضا هو سلوك قوة احتلال يذكرنا بإبعاد الفلسطينيين عام 1992 إلى منطقة مرج الزهور في جنوب لبنان.. ففي شريعة الأسد، من لا يستطيع الوصول إليه وقتله، يمكن إجباره بالحصار والتجويع الجماعي على الخروج إلى مناطق أخرى.. ولا يقتصر ذلك على المقاتلين بل يشمل عائلاتهم من المدنيين، وبذلك يفقد النظام شرعيته كجهة مسؤولة عن رعاية مواطنيه!

كثيرون من السوريين يمكن أن يقرأوا هذا الكلمات بنوع من السخرية.. فالنظام الذي لم يترك وسيلة لقتلهم، والنظام الذي لم تهتز فيه شعرة لهجرة الملايين منهم إلى مخيمات اللجوء، أو الموت غرقاً في رحلات اللجوء إلى أوروبا. والنظام الذي خرج رئيسه ليقول في إحدى مقابلاته الأخيرة عام 2015 إن بين طالبي اللجوء إلى أوروبا من أبناء البلد الذي يحمل جنسيته، الكثير من الإرهابيين. هل يمكن أن يهتم -بعد كل ما فعل- إذا وُصف بأنه سلطة احتلال، أو تمت رصد خروقات سلوكه كنظام وطني أو لا وطني؟!

لقد نسي السوريون خلال السنوات الخمس الماضية من زمن القتل الجماعي، والقصف اليومي، وحملات الحصار والتجويع، والحملات الإعلامية لتشويه سمعة شعب خرج ليطالب بحريته.. ما هو الفارق بين النظام والوطني أو القمعي؟ ورأوا رغم كل المقارنات التي مرجعياتها سلوكيات الاحتلال الإسرائيلي وغيره، أو الانتداب الفرنسي أو البريطاني وغيرهما، أن سلوكيات "الاحتلال" نفسه، أقل توحشاً وهمجية وجنوناً، ووقاحة بالمجاهرة بكل ما كانت تقوم به!

لقد نسي السوريون كل قيم المواطنة ومرارات الاستعمار.. وصار من الصعب عليهم التمييز.. لكنهم ما زالوا يتساءلون بمرارة: كيف يمكن لبشار الجعفري المنتمي لنظام يقلتهم، أن يكون ممثلا لكل السوريين في الأمم المتحدة؟

كيف يمكن لسفارات النظام -التي ترفع صور قاتلهم ووالد قاتلهم- أن تمثلهم؟ لماذا يصر العالم على إجبارهم أن يتوجهوا إلى سفارات سلطات الاحتلال التي شردتهم، كي يحصلوا منها على جوازات السفر، وتصديق شهادات الميلاد لأبنائهم؟! وإذا كان نظام الأسد قد تحلل من كل واجبات الدولة تجاه مواطنيه، وفاق في وحشيته وفجوره أفظع ممارسات الاحتلال بحق أبناء الأراضي المحتلة.. فكيف يمكن أن نبرر بقاء تمثيله في الأمم المتحدة بحجة الحفاظ على مؤسسات الدولة؟!

هل مؤسسات الدولة مبانٍ وموظفون وأختام وأكليشهيات واستمارات معترف بها دولياً.. حتى لو كان من لا يزال ممسكاً بها، قرر في لحظة جنون ألا يراعي أي حقوق لهؤلاء.. وهل يقبل العالم أن يمثل الفلسطينيين في الأمم المتحدة مندوب إسرائيل؟!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد