في خطوة يمكن اعتبارها عملية جسّ للنبض سرّبت وكالة الأسوشيتد برس ما قالت إنه وثيقة أمريكية للحل في سوريا، حيث عرضت الوثيقة الموقف الأمريكي من رحيل الأسد والذي استبعدت أن يكون قبل الشهر الثالث من عام 2017، وهو ما يمكن اعتباره أول مرة يتم فيها الحديث صراحة عن موعد لرحيل الأسد، ولكن بعد أن يتوصل المتفاوضون إلى اتفاق وترتيبات تضمن عدم حدوث فراغ يؤدي إلى حل مؤسستي الأمن والجيش.
من المتوقع أن يلتئم شمل الوفود المشاركة في مفاوضات التسوية السياسية الخاصة بسورية في الخامس والعشرين من الشهر الجاري في جنيف السويسرية، حيث سيتم بحث عدد من الملفات، أولها مسألة وقف إطلاق النار بين نظام الأسد وحلفائه من جهة، وبين بعض أطياف المعارضة من جهة أخرى.
اجتماعات جنيف 3 لا تبدو كسابقاتها، فجميع الظروف باتت مهيأة لإنجاز تسوية رسمت خطوطها العريضة وبما لا يدع مجالاً للتأويل أو التعديل، وبالتالي فإن النقاشات ستنصب على آليات تنفيذ القرارات التي تم التوصل إليها في اجتماعات فيينا الثلاثة ولاحقاً نيويورك، والتي توجّت جميعها بتشكيل هيئة تفاوض وبقرار أممي مذلّ بحق السوريين، رفضته المعارضة في بداية الأمر، لكنها وبقدرة قادر سرعان ما باتت تعتبره مرجعية للحل السياسي في سوريا.
سيجلس المتفاوضون في جنيف بينما الآلة العسكرية لنظام الأسد تدكّ المدن السورية من دير الزور إلى بصري الشام مروراً بدوما وداريا، وسيتبادل المتفاوضون أطراف الحديث وسيستمتعون بوجباتهم الدسمة بينما أبناء مضايا والزبداني لا يجدون ما يسدّ رمقهم فيموتون جوعاً نتيجة حصار جائر ظالم يفرضه نظام الأسد وحزب الله الطائفيان على وادي بردى، وسيستمتع المتفاوضون بالساونا والمساج والجاكوزي، بينما لا يجد أبناء دوما سوى دمائهم يغتسلون بها، لِمَ لا إنه الخيار الاستراتيجي الذي اتخذته المعارضة.
مفاوضات الشهور الستة ستنتج هيئة حكم انتقالية تجمع ما بين نظام الأسد والمعارضة، وبالتالي فإنه لا مجال للحديث عن مسألة تنحي الأسد قبل الشهر الثالث وربما الثامن من عام 2017 والذي من المفترض أن يشهد عملية صياغة دستور جديد مفصل على مقاس أسدي، تحددت ملامحه سلفاً من خلال تصريحات الدول الكبرى وقرار مجلس الأمن الأخير 2254، حيث وبحسب ما هو مقرر سيجري التصويت عليه في نهاية عام 2017 ومن ثم إقراره.
لن نجد اليوم من هو أكثر سعادة من الأسد، كيف لا وقد أتت الرياح بما تشتهي سفنه، فبقاؤه على سدة الحكم مضمون لعامين قادمين مع إمكانية ترشحه وحتى فوزه في الانتخابات الموعودة، ألسنا في دولة ديمقراطية ذات دستور صُمم خصيصاً ليضمن حق الترشح والانتخاب لأي سوري توافقه هيئة الحكم على ترشحه.
المعارضة ممثلة بهيئة التفاوض لا تفوّت مناسبة إلا وتؤكد فيها على ثوابت العملية السياسية المتمثلة برحيل الأسد ونظامه وإعادة هيكلة مؤسستي الأمن والجيش، وأنه لا تفاوض إلا على هذا الأساس، لكنها وفي الوقت عينه ماضية في طريق التفاوض وصولاً إلى تقاسم السلطة مع النظام الذي تطالب برحيله صباح مساء.
من أولى الخطوات التي سيتم اتخاذها – وبحسب التسريبات – تشكيل لجنة أمنية وعسكرية، ستتولى مسألة حل الإشكالات القائمة بين النظام والمعارضة خاصة في ما يتعلق بمسألة التنسيق المباشر في الحرب على الإرهاب بمفهومه المطاط القابل للتأويل والتفصيل على مقاس كل من لا يعجبهم، بحيث سيتم ترك القوائم مفتوحة ليضاف إليها كل من ستسوّل له نفسه رفض هذه التسوية السحرية.
التسريبات تضمنت بند إصدار عفو عام عن رموز نظام الأسد والمعارضتين السياسية والعسكرية المنخرطتين في التسوية، أما معارضة الداخل فإنها شريفة ووطنية صنعها نظام المقاومة، لكنها ستحسب على معارضة الخارج، وبهذا فإن نظام الأسد سيفاوض ويتشارك الحكم مع نفسه، إضافة لبعض الكومبارس من الحرس القديم وعبدة الدولار والريال.
لو استثنينا كلاً من حركة أحرار الشام وجيش الإسلام من هيئة المفاوضات، رغم أن موقفهما لا يزال غامضاً من المشاركة، فسنجد أن ممثلي المعارضة لا يملكون أي ثقل يؤهلهم للحديث باسم الشعب السوري وتقاسم السلطة مع نظام الأسد الذي كان يجب أن يقدم لمحكمة جرائم الحرب، لكن ومع ذلك فحتى مشاركة هذين الفصيلين لا تعطيهما الحق بالشرعنة لبقاء للأسد ولا العفو عن أي شخص تلطخت يداه بدماء السوريين، فكيف بمن دمّر وطناً وقتل وهجّر شعباً بأكمله.
التسوية السياسية بشكلها الحالي ووفق القرار الأممي الأخير وحتى مع الاعتماد على مقررات جنيف 1 كمرجعية للحل، لن تسهم في وقف مأساة الشعب السوري لأن المراد منها تكريس بقاء نظام الأسد ومنحه شرعية تشرعن للأجنبي حربه علينا بحجة الحرب على الإرهاب، لتتحول المواجهات العسكرية في مجملها من قتال ضد نظام الأسد إلى القتال في صفه، وهو ما سيجعل من الإنسان السوري وقوداً لحرب ليست حربه.
إن الحديث عن دستور جديد وانتخابات ديمقراطية هو بيع للوهم والسراب، فأي دستور ستتم صياغته في هذه المرحلة من قبل نظام الأسد والمعارضة الحالية هو دستور ناقص وغير شرعي؛ لأنه سيتم تفصيله على مقاس فئات بعينها، وسيهمل المطالب المحقة للسواد الأعظم من الشعب الذي ضحّى بكل ما يملك في سبيل حريته وكرامته. فالعلمانية وحقوق الأقليات هما السلاح الذي سيتم من خلاله هضم حقوق الأكثرية، ومع ذلك فمن هم السوريون الذين سيصوّتون على هذا الدستور؟ وأين؟
من المرجح أن تمضي التسوية السياسية إلى نهاياتها المرجوة من قبل الأطراف المشاركة بها، فالقرار قد اتخذ ولم يتبقَ إلا إكسابه صفة الشرعية من خلال وجود سوريين لن تتعدى مهمتهم صفة شهود الزور مدفوعي الأجر، وهو ما سينزع عن المشاركين في هذه المهزلة شرعية شعبية وثورية اكتسبوها من خلال قتالهم أو معارضتهم لنظام الأسد، لذلك يمكننا القول إن فرض تسوية ما على بعض الأطراف السورية شيء، ومسألة تعميمها على كل سوريا شيء آخر.
في الشهر الخامس من العام الحالي سيتم حل البرلمان السوري وسيعترف "مجلس العهر الدولي" بالسلطة الانتهازية التي سيتم تشكيلها بالتوافق ما بين الأسد ومعارضته، لتبدأ بعدها الهيئة بممارسة مهام عملها في حضن القائد وتحت خيمة الوطن، ولكن بعد أن تقسم يمين النزاهة والشرف أمام السفاح المختبئ بجحره في بطن قاسيون.
معارضة لا تقوى على إدخال قليل من الغذاء إلى مناطق حُوصر أهلها تحت شعار "الجوع أو الركوع"، كيف يمكن لها أن تفرض شروطاً وحلولاً على نظام تسانده كل قوى الظلام في العالم؟ وكيف ستحقق مطالب الشعب السوري في دولة حرة يسودها العدل والمساواة وخالية من الأسد ومشتقاته؟!
هنيئاً لنا ولكم بثورة عمرها خمس سنين نجحت في إنتاج نفس العصابة مع بعض الرتوش.