بدأنا نسمع في الآونة الأخيرة من بعض المحللين والباحثين في شأن الإستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط عن بدء خروج أميركي من المنطقة، لأنها حسبهم اكتفت وأصبحت لا تحتاج للنفط والغاز بعدما كانت مستوردة لهذه الطاقات، وهي لذلك تحضر رحيلها.. لكن الحقيقة أن من يتكلم هذا الكلام لا يفقه كثيراً طريقة تفكير العقل الإمبراطوري.. حيث لم تقم إمبراطورية كبرى في التاريخ إلا من خلال سيطرتها على الشرق الأوسط وكلامي هنا يبدأ من الآشوريين قديماً حتى الأميركيين حديثاً مروراً بالإمبراطوريات الفارسية والليدية والأخمينية والساسانية والبارثية والسلوقية والبطلمية والفينيقية وممالك أوروبا في الحروب الدينية والعثمانية والحيثية والعبرانية والسومرية والأرامية والميدية والرومانية والبيزنطية والمغولية واليونانية-المقدونية والفرعونية والأموية والعباسية والفاطمية والأيوبية والإنكليزية والفرنسية والسوفيتية والنازية..إلخ.
ولم تنتشر الديانات السماوية إلا من خلال هذا الشرق ولم تنتشر الفلسفة اليونانية والأبيقورية إلا من خلال هذا الشرق، بل لم يعد الإسكندر إسكندراً ولا داريوس ولا سلوقس ولا بطليموس ولا هولاكو ولا تيمورلنك ولا رمسيس الثاني ولا مواتللي الثاني ولا حنبعل ولا سليم الأول ولا كسرى ولا جستنيان ولا نيوخذ نصر ولا حامورابي ولا سرجون ولا معاوية ولا هارون الرشيد ولا حسان الصباح ولا المنذر بن النعمان ولا قطز ولا يوليوس قيصر ولا صلاح الدين ولا ريتشارد قلب الأسد ولا لويس التاسع ولا لورانس العرب.. بتلك القيمة لولا انطلاقهم من هذا الشرق أو دخولهم غازين أو فاتحين أو مؤثرين إلى هذه المنطقة، وهنا أتحدث خاصة عن المثلث الساحر المعروف تاريخياً بمثلث العالم أي العراق والشام (سوريا الكبرى) والأناضول أو الهلال الخصيب مع الأناضول..
إنها ليست منطقة فقط لمرور أنابيب الغاز ومنطقة لمجاري البترول، بل إنه الشرق منبع الحضارات والديانات، وهي ليست حروباً للغاز والبترول بل هي حروب في صراع الحضارات.. والبقاء فيها للأقوى.. هكذا على الأقل علمنا التاريخ..
لا تنتشر إمبراطورية ولا تقوم حضارة إلا وهي تدخل إلى الشرق كالزهرة الوردية وينتهي انتشارها وحضورها وهي تخرج منه كالورقة الذابلة.. مَن يخرج من هذا الشرق كأنه يزيح إمبراطوريته من السيطرة على العالم.. لذلك هذا الشرق أصبح حقلاً للتحارب بين الحضارات المختلفة، والمشكلة فيه لا تتعلق فقط ببقاء الأسد أو رحيله.. إنهم يريدون الشرق، فبدونه لا تساوي الإمبراطوريات الحديثة بتكنولوجياتها وصناعاتها وتقنياتها شيئاً..
يخطئ من يعتقد إذن أن الإمبراطورية الأميركية التي دخلت العراق سنة 2003 فعلت ذلك فقط لإسقاط صدام حسين أو لحقول العراق النفطية الغنية وغازها المنتشر بل كان ذلك لموقع الشرق وتأثيره وسحره الكبير.. فالعقل الإمبراطوري تاريخياً يعرف أن من يسيطر على هذه المنطقة يسيطر على العالم، حيث إنها تتوسط العالم الحديث (باكتشاف القارة الأميركية) وتتوسط العالم القديم (آسيا وأوروبا وإفريقيا)..
وإن أردنا إسقاط ذلك الصراع بين الكبار على هذا العصر الحديث سنتكلم عن القرن الماضي حيث تصارعت قوى العالم على هذا الشرق وكان الصراع بين البريطانيين والفرنسيين والأميركان والسوفييت والصينيين وحتى النازيين (في زمن ما) كبيراً جداً إلى غاية السيطرة الأميركية على المنطقة..
فأمريكا بدأ ظهورها على مسرح الأحداث في الشرق الأوسط قبل الحرب العالمية الثانية وفعلت ذلك على ثلاثة مراحل:
ـ المرحلة الأولى: بدأ التدخل الأميركي في الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية، لكن كانت بريطانيا وفرنسا تقودان شؤون الشرق الأوسط ومكانة أميركا كانت أقل من الاتحاد السوفييتي.
– المرحلة الثانية: بعد الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة، تنافست أميركا والاتحاد السوفييتي على الهيمنة على الشرق الأوسط، بينما تراجعت الهيمنة البريطانية والفرنسية تدريجيا.
– المرحلة الثالثة: بعد الحرب الباردة والى الآن، لا تزال أميركا تهيمن وحدها على منطقة الشرق الأوسط.
ونستطيع أن نقول إن الحاصل اليوم هو المرحلة الرابعة وهي بدء تراجع الهيمنة الأميركية على هذه المنطقة.. وما يحدث حالياً في الشرق الأوسط يأتي ضمن هذا الصراع على المنطقة وهو بداية لإعادة التوازن كما كان خلال الحرب الباردة.. فعودة الدب الروسي إلى المنطقة تأتي ضمن هذا الاتجاه..
بعد كل هذا، هل هناك من ما زال يعتقد أن أميركا خارجة بهذه السهولة من هذا الشرق الساحر؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.