بات في حكم المؤكد أن ما يعيشه العالم اليوم وخاصةً شرقه الأوسط، إرهاصات حرب عالميةٍ جديدة يحبس فيها الجميع أنفاسه تحسبًا لمواجهة كبرى لن تكوى كسابقاتها أبدًا، فالمحاور والاصطفافات الإقليمية والدولية اليوم باتت كثيرة واستعداداتها العسكرية لأي مواجهةٍ مقبلة تجري على قدمٍ وساق من جميع الأطراف والمحاور، فدوران عجلة التسلح في القرن الحادي والعشرين بات أكثر سرعةً وضخامة من أي وقتٍ مضى، ولا أقصد هنا فقط معامل السلاح التي لا تتوقف آلاتها عن العمل لتنتج أكثر الأسلحة قوةً وفتكًا بالبشرية من المواد المتفجرة التقليدية مرورًا بالكيميائية والهيدروجينية وصولًا إلى النووية، بل أشير أيضًا إلى الضخ الإعلامي والديني والطائفي المهيب الذي أصبح يعتلي كل المنابر من المساجد والكنائس إلى شاشات التلفزة وحتى مواقع التواصل الاجتماعي وشبكات الإنترنت بمختلف مسمياتها، والتي أصبحت مشبعةً بالحقد الديني والطائفي المتنوع، والذي ينذرك حين تراه بحتمية اقتراب الصراع العالمي الكبير لشدة وهول كمية التحريض الذي يحتويه بين أطرافٍ وقوىً إقليميةٍ وعالمية كل ما تبحث عنه هو مصالحها التي لا تأتي سوى على جثث الملايين من المدنيين الأبرياء وركام الآلاف من المدن التي تحترق وتدمر في كل يوم.
واحدةٌ من إحدى متناقضات العصر أن ترى الجميع ينفخ في نار التحريض على قتل الآخر وإشعال حربٍ معقدةٍ تجر جميع الأطراف إلى نارها بأهداف ومسمياتٍ منها الدينية والطائفية والقومية وغيرها،، وفي الوقت ذاته الجميع أيضًا يخشى اندلاع هكذا حرب ووقوعها في هذا الوقت لأن الجميع يدرك أن هذه الحرب وإن اندلعت فإن لن ترحم أحدًا ولن تدع أحدًا في مأمنٍ منها كائنًا من كان، ولعلنا نرى اليوم دولًا كانت تشارك من بعيد في الصراع المندلع في الشرق الأوسط، لكن شرارة المواجهة ونيرانها قد زحفت إلى داخل حدود هذه الدول وإليكم ما يجري في السعودية من عمليات تفجيرٍ تستهدف قوى الأمن والمساجد وما يحصل في فرنسا من هجماتٍ إرهابيةٍ متكررة كمثالين لا للحصر.
وإزاء هذه الحالة الملتهبة التي يعيشها العالم على وجه العموم والشرق الأوسط على وجه الخصوص، فإن الدعوة إلى وقف شلال الدم وإطفاء نار الحرب وما يصاحبها بالضرورة من دعواتٍ إلى وقف آلات التحريض وتهييج الحميّة العسكرية لدى شعوب ودول المنطقة، على قلتها يجب أن تكون محط اهتمام من النخب السياسية والثقافية والفكرية في هذه الشعوب، خاصةً الشعوب العربية التي تشكل وقودًا لكل هذه الصراعات الدائرة اليوم في قلب العالم، وإذا ما أردنا حقًا أن يكون لهذه الدعوات صداها في أذهان الجماهير لتحقق الأمل المنشود في اسوداد روح التآلف والسلام في مجتمعاتنا، فإنه من الواجب أن تنطلق هذه الدعوات من منابعها الصحيحة، واذكر بعضها في مقالي هذا كتسليطٍ للضوء على واجبها في وقف حملات التحريض والدعوة إلى السِلم والسلام.
أولًا. وسائل الإعلام ومواقع التواصل
تعد وسائل الإعلام العالمية وخاصةً العربية واحدةً من أكثر منابر التحريض الديني والطائفي والمذهبي، وهي واحدةٍ من أكثر الأساليب التي لعبت دورًا كبيرًا في بث روح الكراهية والبغض بين شعوب المنطقة على أسس فرقت البيت الواحد والمدينة الواحدة والوطن الواحد وجعلت منهم أقوامًا تحمل لبعضها كرهًا وبغضاء وتحريضًا على القتل دونما أي رادعٍ أخلاقيٍ أو إنساني، ولأنها كانت سببًا في خطاب التحريض المهول فإن على وسائل الإعلام هذه أيضًا دورًا كبيرًا في العمل على إزالة خطاب الإرهاب والكراهية من على شاشاتها وأن تتحول من بث خطاب العداء للآخر إلى خطاب التقبل والتوحد بما يسهم في إطفاء نار التحريض وحميّة القتل المتصاعدة لدى شعوب وطوائف المنطقة جمعاء.
وحين نريد الحديث عن مواقع التواصل الاجتماعي وشبكات الإنترنت فيمكننا وصفها بمواقع التجييش الإرهابي، فبعيدًا عن أنها قطعت أوصال المجتمع في حقيقتها بدلًا من أن تكون مواقع للتواصل، فإنها قد أصبحت أيضًا عشًا تفرخ فيه الأفكار العدائية التي يتلقاها الملايين من البشر وكأنهم روبوتات تتلقى مشاعر الكراهية والحقد للآخر ليذهب الكثير منهم إلى ترجمة هذا العداء على أرض الواقع، مع جيرانه مع أبناء وطنه وحتى أن كثيرين خرجوا من أوطانهم إلى أوطان أخرى لترجمة هذا الحقد الذي غذّته ونمّته رسائل التحريض والكراهية على مواقع التواصل الاجتماعي.
ثانيًا. المنابر الدينية
ولا ينكر أحدٌ أن الدين وما يتفرع عنه من الطائفة والمذهب، قد أصبح حجةَ من لا حجةَ له في القتل والإرهاب والتدمير والخراب، وقد أصبح وباء العداء بسبب الدين واجهة الصراع في الشرق الأوسط ومنه انتقل إلى العالم أجمع، فالمسلمون يتصارعون مع المسيحيين والسنة يتقاتلون مع الشيعة والعرب مع الكرد والأتراك مع الفرس، ولا شك بأن أيديولوجيات الصراع على أساس الدين كانت على مدار التاريخ وما زالت أكثر النيران التي أشعلت حروبًا ضروسًا على مستوى العالم أجمع، وبما أن منابر الدين اليوم امتلأت بخطابات الكراهية والتحريض على قتل الآخر على أساس دينه وطائفته ومذهبه وهي تتسبب أيضًا بظهور الجماعات الإرهابيةِ راديكالية الفكر والاتجاه..
فإن هذه المنابر التي استُخدمت لتجييش الكراهية والعداء مطالبةً بوقف خطابات العداء والكراهية هذه فليس من المعقول أن يكون الحل لهذا الصراع المتنامي والمرعب في المنطقة هو أن يبيد أحد الأديان ما سواه أو أن تقضي طائفة على غيرها كي تبقى المنطقة خاليةً من الطرف الديني أو الطائفي الآخر لكن المعقول والمطلوب أن تعود شعوب المنطقة لتعيش سويةً كما كانت عليه في السابق أديانًا وطوائف ومذاهب تشكل فسيفساءً حضاريًا في تعايشها وتقبلها لبعضها فعلى مدى سنين طويلة عاش المسلم والمسيحي والسني والشيعي إلى جوار بعضهم في لبنان والعراق مثلًا دون أن ينظر أحدهم إلى دين الآخر أو طائفته..
المفكرون والنخب المجتمعية:
وتقع على عاتق هذه الفئة المميزة والفريدة في المجتمع أن تتصدر المواقف وأن تعود للواجهة التي سلبها منهم أدعياء التحريض المتواصل ودعاة الفتنة والاقتتال وإذكاء الحروب، وأن يعمل مفكرو المجتمع ونخبته على توعية الناس بتقبل الآخر فكرًا ورأيًا وتوجهات، فعقدة النظر بسلبيةٍ للآخر لمجرد الاختلاف معه في وجهات النظر باتت سمة غالبة على مجتمعاتنا وكأنها تتحسس دواعي الصراع والاقتتال وأسبابه بكل حرفية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.