"تدهش حركة النهضة الإسلامية التونسية هذه الأيام أنصارها وخصومها على حدّ سواء، فالجميع تقريباً يحاول أن يفهم المسافة التي قطعتها حركة إسلامية طالما وصفت من قبل أعدائها بالأصولية بل وبالإرهاب أحياناً، كي تحط رحلها عند تحالف مع حركة "نداء تونس" التي يعتبرها منتقدوها مجرد إعادة تدوير سياسي لنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.. ذلك النظام الذي سامها سوء العذاب ولم يمنحها يوماً فرصة المشاركة الاجتماعية فضلاً عن السياسية".
يصر قادة حركة النهضة الإسلامية التونسية في تصريحاتهم على أن حركتهم تعبر عن فكرها ومواقفها من خلال حزب سياسي مدني، منفتح وحيوي حسم موقفه من الديمقراطية باكراً. وفي ظل قصف نقدي مركز، يتهم خصوم النهضة خطابها وسلوكها السياسي بالازدواجية، مؤكدين في كل مناسبة أنها تعلن غير ما تبطن، وأنها تدعي الديمقراطية لاستعمالها للوصول إلى الحكم، كي تمارس بعد ذلك تجربة في الحكم يجزمون أنها لا تختلف في الجوهر عن تلك التجارب التي قامت في إيران وأفغانستان والسودان.
ترد "النهضة" بأنها ومنذ ندوتها التأسيسية سنة اثنين وثمانين من القرن المنقضي، أعلنت التزامها المبدئي بالديمقراطية، راسمة بذلك قطيعة بمستوى ما مع بداياتها تحت عنوان "الجماعة الإسلامية" المتأثرة إلى حدّ ما بالفكر السلفي. قالت الحركة التي كانت تسمى أيامها "الاتجاه الإسلامي" إنها تؤمن بالعمل ضمن الشرعية وتسلم بمنطق الانتخابات ونتائج صناديق الاقتراع، وتعهدت على لسان رئيسها الشيخ راشد الغنوشي بأنها ستقبل بما يريده الناخب التونسي حتى لو كان الفائز حزباً شيوعياً.
أعلت الحركة في مستوى خطابها من قضية الحريات، وطالبت بها للجميع ومدت جسوراً للتواصل مع مكونات المشهد السياسي، مستفيدة من دخول تونس البورقيبية مرحلة التعددية السياسية في ظل حكومة الراحل محمد المزالي، وهو المسار الذي بقي محكوماً بهواجس سياسية وأزمة ثقة عميقة بين الإسلاميين الذين وجدوا فيه صدى لخيارات بورقيبة، علمانية اصطبغت باستبداد سياسي أبوي قمعهم مثلما قمع قبلهم اليساريين والقوميين.
وبينما كانت حركة "الاتجاه الإسلامي" تتأرجح بين مساعيها للاندراج في المشهد السياسي ومواقفها الراديكالية بخصوص الدولة والمجتمع، آلت الكلمة مع الانتقال من حكم بورقيبة إلى الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إلى الحل الأمني، قليلاً بعد متنفس بسنتين أغدق فيهما بن علي وعوداً أخلفها بخصوص الانفتاح السياسي وتكريس الديمقراطية وحقوق الإنسان.
أياً يكن الحال، لم يكفِ تغيير الحركة اسمها من "الاتجاه الإسلامي" إلى "النهضة" لطمأنة النظام، ولم تكفِ أيضاً لتلافي ما تصفه أدبياتها بالمحنة في إشارة إلى حملة أمنية استئصالية شرسة، سعت لشطب الإسلاميين من المشهد نهائياً، مستفيدة من توجه عالمي لمحاربة ما يوصف بالإرهاب، في ظل مفاهيم فضفاضة، لم تألُ آلة بن علي الأمنية والإعلامية في توسيعها حتى تشمل "النهضة" بعيداً عن التحفظات الغربية.
نكَّل نظام بن علي بمن لم يستطع أن يفلت من الإسلاميين من "محرقة التسعينيات"، غير أن من رمت المهاجر معاطفها وخبأتهم على حد تعبير غنائية "أحمد العربي"، وجدوا لاحقاً في ضارة منفاهم القسري نافعة لعبت دوراً أساسياً في التأثير على خطهم الفكري والسياسي.
في أحد أحياء لندن استقر الشيخ راشد الغنوشي، وفي واحدة من شققها أمضى أوقاتاً طويلة يراقب تطورات الحال في تونس، ويعيش ما يشبه المحاسبة الداخلية التي فاضت عن أطر الحركة المربكة بأوضاعها الجديدة لتستقر معارك على صفحات الإنترنت، حمله ضمنها فريق من مريديه مسؤولية ما آلت إليه الأمور في تونس، كما أنفق الغنوشي كثيراً من الوقت في تلك المرحلة يتأمل مفارقة طبعت تفكيره بعمق، فبريطانيا التي تعتبر في الأدبيات الإسلامية التقليدية دار كفر، منحته اللجوء السياسي ورفضت تسليم رقبته لحكم بالإعدام صدر بحقه من قبل قضاء بن علي، وفي مقابل النظام الديمقراطي البريطاني الذي أبهره بعراقته ورسوخ تقاليده والسقف العالي للحريات فيه، أدارت نظم عربية وإسلامية ظهرها له، وانخرطت بنحو ما في حملة شيطنة الحركة وزعيمها.
في تلك المرحلة بالذات، أنجز الغنوشي ما يمكن وصفه بــ"الحسم الثاني"، فبعد اعتناق الديمقراطية منهجاً في تدبير الشأن السياسي، وتبني عقيدة سياسية جوهرها الإيمان بزواج ممكن بل وراجح النجاح بين الإسلام والديمقراطية، وإن شئت فقل الإسلام والحداثة، ذهب الغنوشي إلى التحرش بخطوط حمر ومسلمات إسلامية وإخوانية تقليدية فيما يشبه التطبيق العملي الجزئي للمنظور الشامل الذي يستند للديمقراطية.
في كتابه "الحريات العامة للدولة الإسلامية" رجح الغنوشي أن المرتد العقدي ليس حكمه القتل في الإسلام، وبذل جهداً مشهوداً ليؤصل لهذه المسألة التي تبدو للوهلة الأولى فقهية، غير أن نظرة متعمقة تدرك أنها تمس في الجوهر واحداً من أهم العوائق "القانونية" التي تقف في وجه إجراء المنظور الديمقراطي من منطلق إسلامي، ذلك أن ما طرحه الغنوشي أخرج اعتناق الأديان والمذاهب والإديولوجيات من الحيز العقائدي الصارم، إلى وسع وجودي وسياسي أساسه الإيمان بأن "لا إكراه في الدين".
كان راشد الغنوشي وحسن الترابي، شيخين يغردان خارج السرب الإخواني، غير أن الفارق بينهما كان أن الأول "يتمتع" بإقصاء حركته سياسياً وما فرضه ذلك عليها من جمود سياسي ليعمق رؤيته الجديدة ويذهب بعيدا عن الأرثوذوكسية الإخوانية، بينما انهمك الثاني في ما وصف بـ"المشروع الحضاري" في سودان الانقلاب الذي نفذه البشير، ثم بعد ذلك في المعركة بين الشيخ ومريده العسكري الذي استسلم في نهاية المطاف للعشق القديم بين عسكر المنطقة العربية وكراسي الحكم فيها.
عسكر المخلوع بن علي الحياة السياسية وأحكم قبضته على تونس، ولم يشعر في أي من مراحل حكمه -عدا مرحلة السقوط والهروب- بالحاجة لعقد صفقة ما مع حركة النهضة، رافضاً باستمرار كل الوساطات واحتمالات التسوية والتطبيع معها. وفي الوقت الذي استيأست فيه قيادات وقواعد النهضة وباتت الحركة أشبه بالنوستالجيا التاريخية التي شرعت تتماوت لظروف أغلبها مفروض عليها، أحدث فريق من الشعب التونسي المفاجأة وأسقط الدولة البوليسية مستفيداً من موقف إيجابي للجيش التونسي من ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011.
عادت حركة النهضة إلى الانبعاث من جديد، وشغلت حيزها في الفضاء العام ثم في الشرعية السياسية بعد ذلك، وكافأها الناخب التونسي لنضاليتها وتضحياتها المشهودة في وجه دكتاتورية بن علي، بيد أن تحديات الحكم وحدَّة الاستقطاب السياسي، شكلت بوادر مرحلة قاسية اقتضت المرور من أريحية التفكير النظري إلى إكراهات التحديات العملية، وها هنا تبينت مجدداً محدودية الفكر المناقبي الإخواني المنغمس في التنظير لما ينبغي أن يكون أكثر من انصرافه للتعاطي مع ما هو كائن بالفعل.
جدد رموز النهضة تمسكهم بالثوابت الديمقراطية مع محاولة للموازنة بين ذلك ومراعاة مرجعيتها الإسلامية، لتجد الحركة نفسها بين مطرقة تيار علماني متمرس بالمناكفات السياسية وآخر سلفي صاعد شرع يتمدد في الفضاء العام ويقدم نفسه تعبيرة أكثر "ثورية" وأصالة مقابل "إسلام النهضة". حتى إذا جاء حين من الدهر طرحت فيه قضية التنصيص على الشريعة مصدراً وحيداً للتشريع في تونس استباقاً لكتابة دستور جديد للبلاد، دقت عندها ساعة الحقيقة وآن أوان القرارات الصعبة، ورغم دغدغة شعار تطبيق الشريعة لمشاعر الإسلاميين بقوة، اختار الشيخ راشد الغنوشي القرار الأصعب وهو عدم مساندته لهذا المطلب بناء على أن الدستور ينص في مادته الأولى على أن "تونس دولة عربية الإسلام دينها والعربية لغتها".
أحرق الغنوشي مراكب كثيرة بحسمه ذاك، وقطع ما تبقى من حبال الوصل والتواصل بين النهضويين والسلفيين خاصة الجهاديين منهم، لتأتي لاحقاً مرحلة زادت فيها الاغتيالات السياسية ودخلت البلاد معها في صدام مفتوح بين مؤسستيها العسكرية والأمنية من جهة وجماعات مسلحة منسوبة للتيار السلفي الجهادي في الجهة المقابلة.
لم يكن كثيرون وقد يكون الغنوشي أحدهم يدرك أنه وحركته يستعدان لتحول عميق في الخط الفكري والسياسي لـ"إخوان تونس"، لعل بوادره الأولى انطلقت مع رفض التنصيص على الشريعة مصدراً حصرياً للقانون التونسي. لحظة فارقة تكثفت مع زيارة للشيخ راشد إلى الجزائر، استبق لقاءه الحار ضمنها مع الرئيس بوتفليقة بتصريح ملفت للصحافة الجزائرية قال فيه "جئنا نتعلم الديمقراطية من الجزائر".. وهو التصريح الذي تجاوز المجاملات الدبلوماسية إلى إدراك عميق لوزن الشقيقة الجارة الكبيرة، وقراءة لمشهد سياسي فيها لم يُرضِ إسلاميي الجزائر أنفسهم، مما خلق عندهم حرجاً ما، أمام مديح أخ الخندق الإخواني لنظام اشتكوا طويلا فساده وديمقراطيته الشكلية. لكن الشيخ راشد الغنوشي كان فيما يبدو يعي أن المشهد المحلي والإقليمي وهشاشة الربيع العربي في بلد مثل تونس، كل ذلك وغيره يقتضي مرونة بالغة ومسافة من الخطاب الحدّي الذي يصبّ زيت الراديكالية على نيران أزمات بلدان تترنح تحت وطأة الإخفاق التنموي والسياسي.
بين أخذ وردّ مكتومين داخل أروقة النهضة، ذهبت الحركة أكثر في اتجاه براغماتيتها سواء بقناعة أو بفعل الضغط الذي مارسته الأحزاب المعارضة للترويكا التي قادها النهضويون في الحكم إثر انتخابات المجلس التأسيسي، وتوقف التونسيون عن بوادر تغييرات كبيرة ومثيرة للجدل عبر عنها الشيخ الغنوشي، فالرجل عاد من رحلة باريسية ليمدح حزب نداء تونس، بعد أن قال قبل ذلك إن ذلك الحزب الصاعد أخطر على تونس من السلفية الجهادية، وكان واضحاً أن تبدل المعادلة السياسية وما فرضه اغتيال المعارضين البارزين شكري بلعيد ومحمد البراهمي من معطيات جديدة، جعلت زعيم النهضة يدرك أن ألغاماً خطيرة باتت تعترض طريق حركته، خاصة بعد أن أطاح انقلاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بحكم الرئيس المصري السابق محمد مرسي، ليبدأ حملة أمنية شرسة ضد إخوان مصر.
انطلقت النهضة في خطابها الجديد من أمور عدة لعل أهمها قراءة تاريخية للمشهد التونسي، تقول إن الإسلاميين وتونس عامة دفعت ثمن المواجهة بين الإسلاميين والدستوريين ورثة مدرسة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، وهي المواجهة التي أذكاها واستفاد منها بنحو ما اليسار التونسي، خاصة بعد هجرته التاريخية نحو التجمع الدستوري الديمقراطي، حزب الرئيس المخلوع بن علي في بواكير حكمه، وقدر الغنوشي أن تثبيت شرعية الوجود السياسي للإسلاميين في البلاد مقدم على غيره من الاعتبارات، ولعل اليسار التونسي ممثلاً أساساً في الجبهة الشعبية التي تضم قوميين أيضاً، كان واعياً بالمعركة على هذا الصعيد لما اشترط على الرئيس الحالي الباجي قايد السبسي بعيد انتصار حزبه "نداء تونس" في رئاسيات وتشريعيات 2014 استبعاد حركة النهضة للالتحاق بأي تحالف حكومي يقود البلاد في مرحلة الاستقرار السياسي. وإلى يوم الناس هذا، يستمر الجدل في تونس حول فكر ومواقف ودور حركة النهضة فيما آلت إليه الأمور في البلاد، بين من يرى لها دوراً رئيسياً في تجنيب التونسيين المحارق المصرية والليبية والسورية، وفريق آخر يتهمها بلا هوادة بالنفاق السياسي والفشل في تجربة الحكم وبالوقوف وراء ظاهرة الإرهاب إن فعلياً أو رمزياً.
على أن حركة النهضة التي جابهت منتقديها بالإمعان وبمستوى غير مسبوق في الشدّ من أزر حركة نداء تونس التي لم تدخر جهدا في إسقاط حكم الترويكا، ليس فقط بالشراكة في الحكم من خلال حقيبة وزارية هي وزارة التشغيل ممثلة في القيادي النهضوي زياد العذاري، وإنما كذلك بتصريحات تنم عن تحالف وثيق وتوافق على أعلى المستويات واستعداد صارم للمضي بعيدا في تقديم تنازلات وخدمات كي تعبر تونس محنها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية الضاغطة.
لم يخفِ الشيخ راشد الغنوشي إعجابه بل وافتتانه بالتجربة التركية في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، فالرجل تعددت زياراته إلى إسطنبول حيث التقى مراراً الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس وزرائه أحمد داوود أوغلو وعبد الله غول قبل ذلك، فيما يشبه لقاءات وثقت لتبادل للخبرات بين الساحتين التركية والتونسية. فالقادة الأتراك يعرفون فيما يشاع كتابات الشيخ راشد الغنوشي ويستلهمون منها ما شكل إحدى مرجعيات خطهم الفكري والسياسي، بينما يجد النهضويون قادة وقواعد في تركيا نموذجاً تطبيقياً يعتبرونه ناجحاً لفكرة التعايش الإسلامي العلماني.
تتكرر الزيارات لتبرز في ثنايا كل منها مظاهر الحفاوة، دون أن تخفي المفترق الذي تقف أمامه حركة النهضة الإسلامية في تونس، ذلك أن الغنوشي يعرف بلا شك أن الخط الأردوغاني ولد ضمن معركة مستمرة لليوم مع الخط التقليدي في الحركة الإسلامية التركية، سواء كانت ممثلة في حزب السعادة الذي أسسه نجم الدين أربكان، أو جماعة فتح الله كولن التي دخلت في صراع مفتوح مع أردوغان. كما يدرك الغنوشي الأثمان التي دفعها أردوغان حتى حجز له مقعداً متقدماً في الساحة التركية والإقليمية في انتظار أن ينضم للنادي الأوربي، فالرجل لم يقطع علاقات بلاده المتنوعة بإسرائيل مكتفياً بمناكفات ظرفية معها، بل وزار الدولة العبرية والتقى قادتها من قبيل أرئيل شارون وصافح رموزها وخطب في مؤسساتها وأسهب في التطرق للعلاقات العريقة والراسخة ين الشعبين والدولتين".
ها هنا يُطرح السؤال ملحاً حول السقف الذي قد تصل إليه مرونة حركة النهضة وبراغماتيتها، فكما يستمر التركيز على مدى صدقها ونجاحها في تحقيق معادلة الإسلام والديمقراطية، يبدو من المشروع معاينة مدى استعدادها للمضي في "الخيار الأردوغاني".
في الإجابة عن هذا السؤال يبدو من السابق لأوانه الحسم في اتجاه ما، غير أن المتابع ليس بوسعه سوى أن يتوقف عند إشارات عدة، فحركة النهضة كانت قد تخلت عن مشروع قانون تحصين الثورة ولم تتمسك بمشروع قانون تجريم التطبيع، وذهب نائب رئيسها الشيخ عبد الفتاح مورو يؤبن "يوئاف حطاب" اليهودي التونسي ابن أحد القيادات اليهودية البارزة في البلاد. "يوئاف" الذي قضى في هجوم "شارلي هيبدو" في باريس، نشرت له وسائل إعلام ومواقع إلكترونية صوراً تثبت حسب ناشريها جنسيته الإسرائيلية وانتماءه لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
مع كل ذلك تبقى أهم إشارتين حاملتي معانٍ، هما حديث القيادي لطفي زيتون في مداخلة تلفازية عن أن الحركة لم تعد إخوانية بالمعنى المتعارف عليه، وأنها حسمت طريقها في اتجاه "التونسة" الكاملة، وما تسرب إلى حد الآن عن مؤتمر النهضة المرتقب من أنه سيكون مؤتمراً مضمونياً سيقدم قراءة جديدة للواقع التونسي ولدور النهضويين فيه.. قراءة تستند إلى مستجدات من بينها ما قيل عن توحيد الموقف النهضوي ما وصف بـ"الآباء المؤسسين".. في سياق بحث عن مصالحة مع تاريخ الحركة الوطنية التونسية، يقع خلاله الاعتراف بالزعيم الراحل الحبيب بورقيبة مصلحاً وبانياً للدولة الحديثة بعد أن كان الغنوشي يرفض الترحم عليه وفاء لعشرات من النهضويين قضوا تحت التعذيب في زنازين أجهزة بورقيبة الأمنية، وبالتزامن مع ذلك يقع طرح الشيخ عبد العزيز الثعالبي المصلح التونسي الذي أسس للعمل الوطني باعتباره "جداً مشتركاً" للعائلتين الإسلامية والدستورية، وهو المفهوم الذي لاقى ترحيباً حذراً من قادة وقواعد نداء تونس في ظل معركة مفتوحة بين شقين أحدهما يساري يدرك جيدا المغزى الرمزي والعملي لهذه البادرة النهضوية.
في كل الأحوال لا تكف حركة النهضة على ضوء ما جدد التعبير عنه القيادي ووزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام، عن التأكيد على أن النهضة على قدر عالٍ من المرونة والحيوية والاستعداد للتفاعل مع الواقع بعيداً عن أي منطق شمولي أو إديولوجي متكلس، لكنه لم يقل إلى أي حد يمكن لحزبه أن يذهب في هذا السبيل محافظاً على صفته الإسلامية وعلى وحدة قياداته وقواعده.. إنه التحدي الأكبر لحركة لا تبدو وفق مؤشرات بعيدة بالمرة عن العودة إلى حكم تونس في ظل الإخفاق الذريع لتجربة حكم حركة نداء تونس التي تعاني يوماً بعد يوم اتساع الهوة بين وعودها الانتخابية وحصاد حكومة الحبيب الصيد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.