في الحرب لا يُحسب التعادل، إما منتصر وإما خاسر، وهكذا تجري الأمور عند المحاربين والعسكريين، بمعنى أن الأمر عندهم إما صفر وإما واحد حسب علم الاحتمالات دون ترك مجالٍ للخطأ، بينما يرى السياسيون أن ما بين الصفر والواحد ما لا ينتهي من الأرقام، فإذا لم يتمكن المحارب من تحصيل النصر فإننا سنجنبه الصفر الحتمي من خلال نسبة في المنتصف، وهو ما يعرف بالمفاوضات والمكاسب.
منذ انطلاق الثورة السورية وعسكرتها دأب الشعب السوري وثواره على استعمال نهج المحاربين في الأمور، وهذه طبيعة الثائر، فإما نصر ساحق أو موت بعزة، فيما كان السياسيون السوريون المؤيدون للثورة يعزفون على أوتارٍ أخرى ليس لها علاقة في الأمر، وهكذا بقيت الأمور حتى جاء مؤتمر الرياض حيث ظهر تأييد شعبي لا بأس به للعمل السياسي المرافق للجهد العسكري.
رافق هذا المؤتمر والذي طُرحت حول استقلاليته وصدقيته الكثير من الأمور، ضجة تتوجت بمؤتمر صحفي لقائد تنظيم جبهة النصرة الفاتح الجولاني، والذي اتهم المشاركين بالمؤتمر بالخيانة وما إلى ذلك مما قاله في المؤتمر.
وهنا تتجلى أهمية التفرقة بين العقلية العسكرية والعقلية السياسية وضرورة وجودهما معاً، والعمل على تكاملهما، فالواضح أن الجهد القتالي الذي قام به الشعب السوري خلال السنوات الماضية من الممكن أن يذهب لغيرهم من خلال لعبة دولية، حالها حال السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية التي ورثت الاستعمار.
وإذا أردنا أن نقيس جدوى المشاركة السياسية في هكذا لعبة، فالأصل أن نسأل السياسيين عن الإيجابي والسلبي وعن موازنات الأمور مقارنة بالوضع العسكري وهو ما تفقده بعض الفصائل في حقيقة الأمر.
ورفْض الجولاني وخلفه العديد من الفصائل للمؤتمر، ينم عن فقدان للعمل السياسي والعقلية السياسية، فيما يفقد المشاركون في مؤتمر الرياض العقلية العسكرية، فالذهاب للمفاوضات دون وجود تقدم للمعارضة سيجعل من سقف مطالب الثورة ضئيلاً.
برأيي إن الثورة بين نارين، نار المشاركة في هذه اللعبة السياسية، ونار المضي في العمل العسكري دون أي تقدم سياسي، ما قد يؤدي لضياع الجهد العسكري، وسأوضح الأمر كالتالي.
المشاركة في اللعبة السياسية تقتضي إشراك أطرافٍ في المعارضة لا تنتمي للثورة وحسب، بل تريد محاربتها بضغط دولي لتمثيل مصالح بعض الدول، كما قد يقدم من لا يستحق كواجهة سياسية للثورة، كذلك تحت ضغط دولي.
ونضيف إلى هذا أن المعارضة السياسية التي لا تتشكل من تلقاء نفسها ومن إيمانها بحاجة الثورة لهذا، ما هي إلا أداة بيد من رعى اتفاقها وضغط لوصوله، وهذا قد يؤدي فيما بعد لتنازلات ترضاها الدول الراعية للمعارضة بسبب ظروفها السياسية والاقتصادية.
والحقيقة أن الخشية الأكبر تكمن في حال وصلت الأطراف إلى هدنة عسكرية ربما تكون طويلة الأمد، وما خبرته الساحة السورية من اهتمام قادة الفصائل العسكرية بتدشين إمارات ودويلات على نهج دولة البغدادي، سيؤدي إلى اقتتال داخلي بهدف تطهير البلاد من عملاء أمريكا، أو محاربة "إخوة المنهج" أو ما شابه أي أن الثورة ستأكل نفسها.
ومن المؤسف بعد 4 سنوات ونصف أن نبقى حبيسين هذا التوجس من أطماع قادة الفصائل بالسيطرة، فمن يهاجم الآخرين بحجة دماء الشهداء سيكون أول من يقتل السوريين لأجل توسيع سيطرته.
أما نار المضي في العمل العسكري دون جهد سياسي، فهو ما سيزيد الطين بلة من نزع الشرعية عن الثورة، حيث استطاع النظام تسويق أهمية وجوده لمحاربة الإرهاب بل وجعل الثوار جزءاً منه، لأن العالم لا يعرف الوجه السياسي للثورة.
وإن كان هناك إقرار ضمني بأن العالم لن يعطي الثورة أي مكاسب سياسية حتى لو كان هناك واجهة سياسية يرى من خلالها أن الثورة ليست إرهاباً، فإننا بحاجة إلى تلك الواجهة لنقل الثورة من حيز العمل الفردي إلى حيز العمل الجماعي، ومن نار الفوضى إلى جنة التنظيم وتأسيس نواة للسلطة.
ختاماً، ليس من صالح أحد أن ندخل في صراعات جانبية حول "خيانة" أحرار الشام، أو حول "وجه الجولاني"، وليس من صالح أحد الولوج بصراع لإثبات وطنية الجيش الحر أو أهمية وجود جبهة النصرة والتيار الجهادي، في ظل تصاعد للعدوان الروسي والإيراني والأسدي على الشعب.
قد لا يملك السوريون الآن مقومات النصر، إلا أن هذا لا يعفيهم من إثم تفرقهم وعشوائيتهم وتخوينهم لبعضهم، وليتذكروا أن بين الصفر والواحد ما لا ينتهي من الأرقام، فلا يضيقوا واسعاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.