بالتوازي مع سياسة التطهير التي بدأها نظام حزب البعث بعد استيلائه على السلطة في عام 1963، لطرد العناصر أو المجموعات المناوئة للانقلابين، أو على الأقل غير المتعاطفة معهم في قطاعات الجيش والأمن والإعلام تحديداً، واستبدالهم بآخرين يضمن ولاءهم لتحدُّرهم من نفس المكون الطائفي والمناطقي للانقلابيين، ومشاركتهم له نفس الرؤى والمصالح والغايات، استخدم نظام الأسد منذ أيام الأب إستراتيجية إغراق النقابات والمؤسسات والهيئات والجمعيات بمواليه وجماعاته للسيطرة عليها، وتحويلها إلى جزء من أدواته للسيطرة على المجتمع السوري.
لم يتوقف الأسد الأب لحظة عن متابعة سياسة التطهير الطائفي داخل قطاعات الجيش والأمن والإعلام التي بدأها زملاؤه في اللجنة العسكرية أولاً، ثم تابعها إصلاح جديد في السنوات التي حكم فيها بين 23 فبراير 1966 وحتى 16 أكتوبر 1970، وظهر نجاحه الواضح في تطييف هذه الأدوات الأساسية لحكم أي بلد خلال الثورة السورية منذ مارس 2011 وحتى اليوم، لكن هذا ليس السر الوحيد لنجاح الأسد الأب في إمساك البلد بقبضة من حديد بدون إزعاجات أو منغصات تذكر بعد القضاء على جماعة الإخوان المسلمين في مجزرة حماة 1982، وتوريث ابنه السلطة بسلاسة عجيبة، ومن ثم قضاؤه عشرة سنوات في الحكم كما لو أنه يسترخي خلال عطلة في منتجع سياحي، ولا يحكم بلداً صعباً ومعقداً كسورية.
مع سياسة التطهير التي ورثها الأسد الأب عن سابقيه، ولم يتخلَّ عنها في أية لحظة من لحظات حكمه أضاف أساليب جديدة لإحكام سيطرته على سورية والسوريين، تؤدي نفس الغرض، أبرزها إغراق أية مؤسسة أو نقابة أو جمعية عصية على حكمه من دون أن تدخل في مواجهة مباشرة وعلنية معه، أو ربما قد تتحول في لحظة ما إلى جهة معادية له، بالموالين والمخلصين والتابعين له بحيث يتحولون إلى أكثرية، وتتحول المجموعات التي كان يخشاها الأسد الأب أو يحذر من وجودها داخل تلك المؤسسات والنقابات والجمعيات إلى قلّة قليلة ليس لها صوت، تذوب مع الوقت، وحتى لو استطاعت أن تشاغب على أكثريته الموالية فبإمكانه عزلها واضطهادها وتحويلها إلى حالة تثير الاستنكار في محيطها، بدلاً من أن تحشد التعاطف أو تثير الإعجاب.
حدث هذا في كل النقابات والتجمعات ابتداءً من العمال بمختلف حرفهم، وانتهاء بمهن الرأي من الكتاب والمحامين والصحفيين، وأي متابع لتشكيلة هذه النقابات عبر سنوات حكم حافظ وبشار الأسد سيلحظ كيف تحولت هذه النقابات والاتحادات إلى مجموعة من كتبة التقارير الأمنية ومهللين في احتفالات النظام وباحثين عن دخول إضافية وأذونات سفر وسيارات حكومية وبونات بنزين، والأمر نفسه حدث في الجمعيات والمعاهد الدينية والجوامع التي كانت وطوال حكمه تشكل مصدر خشية ورعب لنظام البعث منذ لحظة استيلائه على السلطة وصولاً لمجزرة حماة، فأعاد الأسد الأب هيكلتها جميعاً بربط أئمة المساجد وخطبائها ودعاتها بمكتب شؤون الأديان بإدارة الأمن السياسي، وأنشأ مدارس الأسد لتحفيظ القرآن الكريم تحت سمع وبصر أجهزته الأمنية المباشرين.
فعل الأسد الأب ما يشبه ذلك مع الأحزاب السياسية التي جمعها في الجبهة الوطنية التقدمية، وقطع عنها الماء والهواء بمنعه لها من العمل في قطاعي الجيش والطلاب، واشترى قياداتها وشجع انشقاقاتها، وحولها مع الوقت إلى مجموعة ديناصورات منقرضة تعيش في الماضي وتسلي نفسها بعد الهبات والمكاسب الضئيلة التي كانت تُرمى لها، وتظهر في صور صامته مع موسيقى جنائزية مرتين في العام في نشرات أخبار الثامنة والنصف في التلفزيون السوري، وهي تهز رؤوسها في اجتماع يجلس على رأسه إمعانا في التحقير لها محمد زهير مشارقة أحد أكثر موظفي الأسد الأب عتهاً.
ما لم يستطع احتواءه من الأحزاب بقفازه الحريري، استخدم معه ذراعه الحديدية التي تنتهي بشنكل، فقضى على جماعة الإخوان المسلمين وشرّد من بقي منهم حياً، وملأ السجون بمعتقلي الأحزاب اليسارية لسنوات طويلة، ليخرجوا في النهاية بعد أكثر من عقد قضاه أقلهم مدة اعتقال، مصابين بثلاثة أمراض على الأقل، من بينها السكري والضغط والسرطان في أحيان كثيرة، ويعيدون تنظيم صفوفهم في ما سموه التجمع الوطني الديمقراطي وهو هيئة أقرب لمكان تقاعد أو دار مسنين أو مصحة أمراض منه إلى كيان سياسي، إذا ما نظر إلى بياناته الكهلة الخجولة.
بنفس الطريقة السابقة، وذات العقلية والآليات تعامل بشار الأسد مع الثورة والمعارضة السورية منذ مارس 2011، ما لم يستطع احتواءه وتطويعه بالمغريات أو المقايضات أو الهدن، صنفه إرهابياً واستخدم كل الأسلحة والحلفاء وحشد الدول لقصفه وتدميره، وأعاد تدوير المعارضة ورفدها بالعناصر والأحزاب، ولهذا السبب بالذات أقرّ قانون الأحزاب عام 2011 بعد إحدى عشرة سنة من المطالبات المستمرة لإصداره، وشكلت الأجهزة الأمنية مجموعة أحزاب سبب إنشائها الوحيد تحويل ما تبقى من أحزاب خرجت منهكة من سنوات القمع والاعتقال إلى رقم وأقلية بين أحزاب موالية تتبع للنظام، وبالتوازي مع ذلك اخترق كل أجسام المعارضة بشخصيات بعضها مطرود من النظام، وبعضها أعلن انشقاقه عنه لكنه لا يزال يسايره في الخفاء، وشكلت دول وأقليات ورجال أعمال وأجهزة مخابرات أحزاب كرتونية فخرج المنبر الديمقراطي والتيار الديمقراطي وحزب الجمهورية ولقاء قرطبة وتيار الوعد السوري وتيار غد سورية و… و… والكثير من الأحزاب التي لا تقل كرتونية عن الأحزاب التي شكلتها أجهزة النظام الأمنية، ونجح النظام في النهاية في تشكيل هيئة تفاوض من بين أعضائها رياض نعسان آغا ورياض حجاب ومعاذ الخطيب وجمال سليمان وأحمد الجربا ويحيى القضماني وهند قبوات ويحيى العريضي وهادي البحرة ومنى غانم وبدر جاموس ولؤي حسين ونواف الفارس ونبراس الفاضل وسواهم ليحاور نفسه، ليتحول أشخاص مثل ميشيل كيلو وجورج صبرا وفاروق طيفور إلى شهود زور على ما يُراد له أن يكون وثيقة استسلام الثورة.
نعم نجح بشار الأسد، فهو صاحب أكبر حصة بين الأسماء التي تتبع له أو يمون عليها أو يرتبط بعلاقات معها أو يحتفظ بملفات لها في هيئة المفاوضات تلك، لكن يجب أن نتذكر أن كل ما فعله حافظ الأسد كان تأخير الثورة على نظامه وليس وأدها، وكل ما يفعله بشار الأسد هو تأخير انتصار الثورة وليس هزيمتها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.