يحكى أن: البطل وهمًا!

تخيل نفسك إنسانًا بسيطًا تعيش على هامش المجتمع ولا يكترث بك أحد، ثم فجأة أصبحت تحمل بندقية تقف بها عند مفترق الطريق وتتحكم بها في حياة الناس، والبندقية لمن لا يعلم تمنح حاملها قوة لا حدود لها، وخوف الناس من البندقية يزيد هذا الشعور عند حاملها، في الجيش يدرك المقاتل أن أي تصرف خاطئ سيجعله عرضة للمحاكمة، لكن في تلك الحروب من سيحاكم من، وكل ميليشيا لا يهمها إلا أن يزداد عدد مقاتليها، بغض النظر عن كفاءاتهم وقيمهم وسلوكهم.

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/11 الساعة 08:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/11 الساعة 08:24 بتوقيت غرينتش

كانت المقاومة قد فازت وحققت مرادها باستقلال بلادها تيمور الشرقية بأغلبيتها المسيحية عن مستعمرتها السابقة إندونيسيا، انتهت الحرب والثورة، وأردتُ وأنا هناك أن أستمع إلى بعض المقاتلين القدماء، وبالفعل التقيت بعضهم وكانوا بالزيّ المدني بعد أن خلعت المقاومة كلها زيّها العسكري بارتفاع علم الاستقلال بدعم ومباركة دولية.

لكن أحدهم لم يكن ليعترف بذلك، الحرب لم تنته عنده بعد، كان يتحرك أمامنا مختالًا ذهابًا وإيابًا، وقد ارتدى زيه العسكري، ووضع على بِزَّته قطعًا معدنية متعددة وكأنها تلك النياشين التي يتحصل عليها المقاتلون، ذكرتني بأغطية زجاجات المشروبات الغازية، فيما تخرج من جيوب سترته أسلاك متناثرة تتصل بأجهزة أشبه بهواتف يعلقها على كتفه، كأنه على تواصل مع القيادات العسكرية.

كان يطمح إلى أن أطلب لقاءً تلفزيونياً معه، ثم لما لم يجد تجاوباً طلب هو إجراء اللقاء، لم أكن وحدي الذي لاحظت وإنما كامل الفريق الذي يعمل معي، ومازلنا عندما نلتقي نتندر بذكر هذا الرجل، الذي هو نموذج متكرر شاهدته والتقيت بأمثاله في مناطق الحروب الأهلية.

تخيل نفسك إنسانًا بسيطًا تعيش على هامش المجتمع ولا يكترث بك أحد، ثم فجأة أصبحت تحمل بندقية تقف بها عند مفترق الطريق وتتحكم بها في حياة الناس، والبندقية لمن لا يعلم تمنح حاملها قوة لا حدود لها، وخوف الناس من البندقية يزيد هذا الشعور عند حاملها، في الجيش يدرك المقاتل أن أي تصرف خاطئ سيجعله عرضة للمحاكمة، لكن في تلك الحروب من سيحاكم من، وكل ميليشيا لا يهمها إلا أن يزداد عدد مقاتليها، بغض النظر عن كفاءاتهم وقيمهم وسلوكهم.

خلال الحرب في البوسنة كنت يومًا محشورًا في سيارة صغيرة في طريقنا إلى شمال البلاد، وفي إحدى نقاط التفتيش التي تتحكم بها الميليشيا الكرواتية تم إيقافنا وكنا مساء، أصر المقاتلون على أن نخرج من السيارة وأن يتم تفتيشنا ذاتيًا، ثم قاموا بإخراج محتويات حقائبنا ونثرها على قارعة الطريق المغطى بالجليد بحجة تفتيشها، كانوا يتصرفون بعنف وبصبيانية، وكان من السهل أن تدرك أنهم من نفس هذه الطينة التي أتحدث عنها.

بعد عدة ساعات كان الجنود يتبادلون النكات ويتصايحون بلغتهم بألفاظ قبيحة وتعبيرات جنسية، أحدنا كان إمام مسجد نادى عليهم وصاح بهم غاضبًا، أنا شيخ ولا يجب أن تتبادلوا هذه الألفاظ خصوصًا في وجودي، وكان مدهشًا أنهم استجابوا له وتوقفوا تمامًا، وبدا لنا حينها بطلًا حقيقيًا.

بعد أن قضينا ليلتنا الشتوية السوداء في معتقلهم، وبعد أن انتصف اليوم التالي تم عرضنا على قائدهم، ولما قرر الإفراج عنا وتوجهنا إلى سيارتنا تحول هؤلاء المتوحشون إلى شخصيات أخرى تمامًا، إنهم يساعدوننا في حمل حقائبنا وفي تشغيل السيارة طمعًا في بعض الماركات الألمانية أو الدولارات الأمريكية التي جُدْنا بها عليهم، وكان مشهد مثير وهم يودعوننا شاكرين، بعد أن كانوا قبل ساعات يشهرون في وجوهنا بنادقهم ويعدوننا بسوء العقاب ويحشروننا في زنزانة مفتحة النوافذ في ليل شتوي قاسٍ ودون السماح بتناول الطعام.

وقد يأخذ الأمر شكلًا أكثر لطفًا، كما وقع معي في أدغال الكونغو خلال حربها الأهلية التي امتدت من أكتوبر عام ستة وتسعين إلى مايو العام الذي يليه، ففي ذلك الحين وفي هذه المناطق يصعب أو يستحيل أن تؤمن نفقات فريق عمل كامل عبر استخدام البطاقات الائتمانية في بلد إفريقي يعيش حربًا أهلية، وتصبح مغامرة أيضًا أن تضع ما تملكه في المأوى الذي اخترته للنوم وأنت لا تأمن فيه على حياتك نفسها، لذا حملت عشرين ألف دولار وخبأتها في أنحاء متفرقة من ملابسي وحذائي.

وحدث أن تورطنا في عمق الغابة في إحدى المناطق، ثم فجأة قال لنا مرافقنا الذي من المفترض أنه دليلنا ومترجمنا وحامينا إن الناس هنا أبلغوه للتو بأن لديهم عادة يجب احترامها، سألت: وما هي؟ قال سيأتي الآن زعيم القبيلة ويجب إهداؤه هدية ما، ولأن "زارا" و"ماسيمو" وغيرهما ليس لديهم أي فروع في هذه الغابة فقد سألته: وأي هدية هنا؟ أجابني يكفي بعض النقود، ففهمت واحترت كم أدفع له لأرضيه وأسكت هذه العيون التي انشقت عنها الأرض وخرجت لتحيطنا من كل جانب، ثم كيف أخرج المال من مخابئي دون كشفها حتى لا يطمعوا في المزيد.

بعد إلحاح مني على معرفة المبلغ الذي يجب أن أدفعه، قال مرافقنا يكفي عشرون دولارًا، حمدت ربي، ووصل الزعيم يتبختر في سرواله وأنا أدرك جيدًا أنه ليس بزعيم وإنما شخص نصّب نفسه هكذا بقوة السلاح أو غيرها في هذه المنطقة النائية، ولأني صففت أموالي بطريقة ما، كل ذات قيمة في ناحية، فقد وضعت أصابعي في سترتي الداخلية أمام الجميع وأخرجت المبلغ المطلوب تمامًا وكأني ساحر، ثم قادونا لنعود إلى الطريق أو ليُفرج عنا بمعنى أدق.

هذه النماذج من "الأبطال" ذكرتني بقصة أخرى وقعت معي في يناير عام سبعة وسبعين، ففي الثامن عشر منه بدا الأمر وكأن أحدًا قد ضغط زرًا ما فخرجت البلد عن بكرة أبيها في مظاهرات عارمة سماها السادات انتفاضة الحرامية، لم يكن أحد يوجه الجماهير، المصانع والشركات والمدارس والجامعات والقرى والمدن في مصر من أولها إلى آخرها خرجت تندد بضيق الحال إثر قرارات مفاجئة برفع الأسعار في كافة النواحي.

في هذه "الانتفاضة – الثورة" فوجئنا جميعا بصعود شخصيات بسيطة وتصدُّرها للمشهد، ليس من قبيل التباهي والبحث عن البطولة الزائفة ولكن فعلًا إنجازًا لمهمة ما، صديقنا "السيد" كان شابًا لطيفًا وسيمًا، لا أراه في طرقات الكلية إلا وتقف معه كوكبة من الجميلات، لا يتدخل في الشأن السياسي ولا يشاركنا ندواتنا ولا أحاديثنا السياسية، لكنه في ذلك اليوم قفز فجأة إلى مصاف الزعماء، يحمله الطلاب على أكتافهم، في مظاهرات داخل الكلية ما لبثت أن خرجت إلى شوارع الإسكندرية لتندمج في المظاهرات التي عمّت المدينة كلها.

والطريف أنه وبعد احتواء الانتفاضة وانطلاق الأمن لاعتقال النشطاء اختبأ في شقة تعلو مركز شرطة في أحد أحياء الإسكندرية وكان الأمر مثار ضحكنا. لكن السيد وأمثاله كانوا بالفعل أبطالًا حقيقيين انشقت عنهم الأرض فجأة وفاجأونا نحن النشطاء التقليديين، وقد قررنا أن نتفرق ونهرب إلى أن يهدأ الحال بعد أن تراجعت الحكومة عن قراراتها ولم يصبح من داع لاستمرار الثورة، إنه أشبه بخطأ يناير، فقد اقتنع الناس بقرارات مزركشة أصدرها النظام الذي احتفظ بالعفن مختبئًا.

كنت أجلس مع صلاح ومجموعة من الرفاق في شقة مستأجرة بحي ستانلي بالإسكندرية، وقد رأينا أن نتفرق لأن الأمن يبذل كل ما في وسعه للقبض على الشباب، وحده صلاح قال إنه سيبقى في البيت وإنه لا يخش الاعتقال. وكأي مشهد سينمائي، ما هي إلا دقائق ونسمع صفارات سيارات الشرطة فاعتقدنا أنهم في طريقهم إلينا، فخرجنا على عجل متفرقين، وقد ارتديت طاقية وغيّرت مظهري وخلعت نظارتي الطبية فلم أعد أرَ شيئا وأنا أسير على الكورنيش على غير هدى، فكنت أضحك وأنا خائف!

قرر النظام المجيد استئناف الدراسة التي كانت قد توقفت بسبب الانتفاضة، وجلس صديقي العزيز صلاح معي يقنعني بأنه لابد من الدعوة إلى التظاهر في يومنا الدراسي الأول، وعبثاً حاولت إقناعه بأنه لا جدوى من الأمر، وقد تراجعت الدولة عن كل قراراتها وهدأ الشارع ولم يعد هناك من سبب للثورة، أو هكذا يعتقد الشارع والجامعة منه.

صلاح لم يقتنع، وقد بدا لي شخصًا غريبًا ومختلفًا عن ذلك الشاب الذكي المتقد حماسًا ووعيًا الذي عرفته، ولم أفهم حزنه الذي لم يستطع أن يخفيه من أنهم لم يقبضوا عليه رغم أنه لم يهرب، وكأنه شعر بأنه لا قيمة له في المشهد.

تشاجرنا، وخرج صلاح فاشترى صندوقًا كاملًا من زجاجات البيرة، وعاد بها إلى حيث يسكن معي وبدأ يشربها واحدة تلو واحدة، ولأن حدود معلوماتي أن البيرة لا تفعل فعل النبيذ، فقد اندهشت من صلاح وهو يقوم بدور المخمور ليقضي الليل كله يشرب ويصرخ: "أسعد باع القضية يا رجالة.. أسعد باع القضية".

تفاقمت حالة صلاح بعد ذلك، فقد ذهب إلى الجامعة وحاول فعل أي شيء، لكن لم يستجب له أحد من ناحية، ولم يلق القبض عليه من ناحية أخرى، ما أثار جنونه، لكنه تلبس دور الهارب، وكان يعود ليحكي لنا مغامراته وهو يقفز من ترام إلى ترام في شوارع الإسكندرية هربًا من الملاحقة، وكيف اشتاق لرؤية أمه فقرر المجازفة بلقائها وطلب من أصدقائه في الحي الشعبي الذي يسكنه أن يدعوها في ساعة محددة إلى بيت أحدهم، وكيف أنه اضطر للقفز من سطح بيت إلى آخر وصولاً إلى مكان لقاء الوالدة.

ثم اختفى صلاح فجأة وعاد ليخبرنا بأن السلطات اعتقلته وزجّت به في السجن، كنا نستمع له وكل واحد فينا يثق تمامًا بأن أمرًا مثل هذا لم يحدث، ثم اختفى صلاح العزيز عنا ولم نعد نسمع به، لكنني ظللت ألتقي بأبطال متوهمين كثر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد