أستطيع أن أستوعب (من دون أن أقتنع أو أبرر) حركة الرئيس الفرنسي الجنونية في العالم لحشد حلف واسع، وإرساله للطائرات والبوارج لقصف المناطق التي يسيطر عليه تنظيم الدولة الإسلامية، وبدون أي اهتمام أو تفكير بالمدنيين الذين سيقتلون جراء غاراته سواء في سورية أو العراق، ردّاً على هجمات باريس التي استهدفت مدنيين أبرياء، فوصول تنظيم الدولة الإسلامية واستهدافه أماكن في قلب باريس هو تحد سافر لسلطة الدولة الفرنسية ولإدارة الرئيس هولاند وقدرته على حماية بلاده وضمان أمن مواطنيه، ومشكلةٌ تعترض مستقبله السياسي ومستقبل حزبه في حال لم يتخذ إجراءات أو يقوم برد، أو في حال تكررت العمليات.
وأستطيع أن أفهم (من دون أن أقتنع أو أبرر أيضاً) تصريحات زعيم دولة أو رئيس حكومة أو وزير دفاع أو وزير داخلية تعرضت بلاده لاعتداء من أي تنظيم أو جهة، وإطلاقه التهديدات واتخاذه الإجراءات، بغض النظر عن انفعاليتها أو صحتها أو فاعليتها، أو مدى وحشيتها وقربها أو بعدها عن القوانين الدولية وحقوق الإنسان، ففي النهاية هؤلاء أصحاب مناصب تنفيذية يريدون الحفاظ عليها، ويطمحون للاستمرار في الحكم، لكن ما لا أستطيع فهمه ولا الاقتناع به أو تبريره هو قيام نوّاب برلمان باستخدام الوسائل الديمقراطية لشرعنة جرائم إبادة وارتكاب عمليات قتل.
ما حدث في جلسة البرلمان البريطاني التي منحت كاميرون حق استخدام القوة العسكرية لقصف مدن ومناطق في سورية بحجة محاربة الإرهاب، بدون أي اعتبار أو اهتمام بوجود مدنيين سوريين قد يقتلون جراء الغارات البريطانية في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، ومن ثم قرار البرلمان الألماني بالموافقة على مشاركة الحكومة الألمانية في الحرب والقتل تحت نفس الحجة هو أكبر ضربة قد توجه لمفهوم الديمقراطية البرلمانية، وتحوّل ممثلي شعب من الشعوب منتخبين من قبله إلى مصدري قرارات إعدام وموقعي أوامر تصفية ومرتكبي جرائم حرب لأشخاص لا يعرفونهم ولم يروهم ولم يرتكبوا أي ذنب بحقهم، وكل ما فعلوه أنهم يعيشون في أرضهم وبين أهلهم، في مناطق استولى عليها تنظيم الدولة الإسلامية بقوة السلاح، أو على الأقل تجعلهم بشرا بدون أخلاق أو ضمير مجردين من أدنى شعور إنساني، حين يعتبرون أن مقتل أبرياء لا علاقة لهم بحرب أو قتال، ولمجرد تواجدهم في أرض أعدائهم أمر مشروع ومبرر أو غير مهم.
كانت أجواء جلسة البرلمان البريطاني التي اتخذ فيها قرار العدوان على السوريين أقرب إلى محكمة ميدانية منها إلى مناقشات في قاعة برلمان، وظهر النواب الذين يُفترض بهم أن يدافعوا عن مصالح الذين صوتوا لهم، ويطالبوا بتحسين شروط الحياة لهم، وتخصيص مبالغ أكبر في الموازنة العامة لصالح الصحة والضمان الاجتماعي لناخبيهم، أقرب إلى قبيلة من أكلي لحوم البشر، وقد علقوا ضحيتهم فوق النار وينتظرون شواءها، وهم يدورون حولها ويرقصون بريش على رؤوسهم وأصباغ على وجوههم مطلقين صرخات الانتصار والانتقام على وقع القرع الحماسي للطبول، وبدت البذات الأنيقة والقمصان المكوية وربطات العنق الغالية والذقون الحليقة والنظارات المذهّبة مجرد ملابس تنكرية لأعضاء فرقة إعدام، والحجة دائماً منع الإرهاب من الوصول إلى بلادنا وحماية مواطنينا مهما كان الثمن، وعلى طريقة أطباء التضحية بالمولود لإنقاذ الأم.
نفس البرلمان الذي رفض قبل عامين قصف قوات عسكرية خالصة ومراكز قيادة وسيطرة لنظام بشار الأسد الذي استخدم السلاح الكيماوي ضد شعبه، ولم تتحرك شعرة في رؤوس أعضائه أو يهتز لهم جفن أمام آلاف القتلى الذين ماتوا بالسلاح الكيماوي والغازات السامة ومختلف أنواع السلاح التقليدية ويومياً على مدار ما يقترب من خمس سنوات، نفس البرلمان يصطف اليوم في جهة القاتل الذي رفض أن يقصف قواته قبل عامين، ويساعده في قصف شعبه والاحتفاظ بسلطته ويمنح المشروعية (عبر أكثر الطرق ديمقراطية من خلال تصويت البرلمان) لعمليات القتل والقصف الوحشي وارتكاب جرائم الحرب، بحجة حماية مواطنين على بعد آلاف الكيلومترات من إرهاب افتراضي محتمل قد يحدث وقد لا يحدث، كان يكفي زيادة التشديد الأمني ومضاعفة أعداد رجال الشرطة لحمايتهم، بدلاً من قتل أبرياء كل ذنبهم أنهم يعيشون بالصدفة في مكان يتواجد فيه خصومهم، وقتلهم لن يقلل من مخاطر الإرهاب المحتمل، إن لم يكن سيزيده حسب قواعد الانتقام المتبادل.
ذات يوم وبعد أن تنتهي موضة الحرب على الإرهاب التي تستخدم اليوم لإعادة سيطرة واحتلال وتقاسم نفوذ وثروات بين الولايات المتحدة وروسيا وإيران وفرنسا وبريطانيا ولتثبيت حكم وحماية سلطة داخل ملحقاتهم من الدول التابعة التي تدور في فلكهم، سيدرس أبناء من سيبقى من السوريين في مناهجهم العدوان الأميركي الروسي الإيراني البريطاني والفرنسي، بالطريقة ذاتها التي يدرسون فيها الاحتلالين الفرنسي والبريطاني لبلدانهم في القرن الماضي لذرائع أخرى لم يكن من بينها الإرهاب لأن موضته لم تكن قد اكتشفت بعد، وسيتذكرون حجم وكمية الهيئات والأحزاب والشخصيات والكتّاب من المعارضة التي هللت لقصف بلادها، وصفقت للقنابل التي سقطت على رؤوس مدنيين أبرياء بحجة محاربة الإرهاب، ابتداءً من هادي البحرة أحد رؤساء الائتلاف السابقين، الذي وقف ليطالب التحالف بالفم الملآن بقصف الأراضي السورية أسوةً بقصفه للأراضي العراقية، تنفيذاً لأمر إقليمي تلقاه، وانتهاء بكل سجناء اليسار السابقين الذين تحولوا إلى مفتين شرعيين يمنحون البركة لكل الطائرات التي تقصف بلادهم.
ما أسوأ الديمقراطية وأبأس البرلمان حين يصبح التصويت على قتل البشر جزءاً منهما!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.