يحكى أن: لماذا يتغير المناضلون؟

كنت أسمع وأشاهد حكايات نضالهم وأندهش، لم أكن متشائماً، لكن ما ظننت أنهم سينالون حريتهم على الأقل في حياتي، لكن المعركة بدأت، حين ملّ بعض الشباب من "سلمية" الزعيم الألباني إبراهيم روجوفا فقرروا تكوين فرقهم المسلحة. تصارع طويلاً الفريقان، لكن السلاح أعلى صوتاً، وفُرض الأمر الواقع، وبدأت الصدامات المسلحة بين الألبان المسلحين وبين قوات الشرطة أو الجيش الصربي، ثم بدأت المعركة الشهيرة التي تدخل فيها الناتو لصالح ألبان كوسوفو.

عربي بوست
تم النشر: 2015/11/27 الساعة 08:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/11/27 الساعة 08:52 بتوقيت غرينتش

لا أتذكر اسمه، لكنه يقفز إلى ذهني من حين لآخر، كان فيلماً عن قرية إيطالية خلال الحرب العالمية الثانية وقد وصلها نبأ يفيد بأن قوات العدو في الطريق إليها، ولأنها لا تملك السلاح للمواجهة، فكرت وفكرت وتوصلت إلى فكرة تعتمد على عمل جماعي، وهو الأمر الذي استمتعت به حينها، كيف يقرر الناس أن يتكاتفوا من دون شكل تنظيمي محدد لتحقيق غاية محددة.

تذكرت هذا الفيلم عندما زرت كوسوفو وهي تحت الاحتلال الصربي الذي يتشابه مع الاحتلال الصهيوني إلى حد كبير في وسائل القمع، فقد قررت السلطات الصربية إغلاق المدارس الألبانية بالكامل، وكان هذا يعني أن أجيالاً ستكبر أمية غير متعلمة. أفزع الأمر الأهالي، لكنهم فكروا وفكروا إلى أن توصلوا لفكرة تعتمد على عمل جماعي، تنصّ على تنازل بعض أصحاب البيوت عن بعض الغرف في منازلهم وفتحها أمام التلاميذ، ويتطوع المدرسون لتعليم الأطفال بالمجان، ويتطوع آخرون لنقل التلاميذ.

وهكذا كانت العاصمة بريشتينا تبدو خلية نحل صباحاً والتلاميذ يتوجهون إلى تلك "البيوت المدارس"، لم يشتك أحد من الإزعاج، أو من أي تلفيات يسببها الصغار، وتبارى الناس في القيام بأعمال الصيانة والتنظيف، وهكذا تكونت ورشة عمل جماعية مجانية لشعب قرر مواجهة التخلف الذي كان الاستعمار يحاول فرضه عليه.

ولأن السلطات الصربية لم تغلق المدارس فحسب وإنما أيضاً الشركات والمصانع، أصبح الشعب عاطلاً عن العمل، فهاجر الآلاف إلى أوروبا بحثاً عن لقمة العيش، لكن همّ المهاجرين لم يتوقف عند سد الحاجات الشخصية فقد راحوا يقومون بتحويل جزء من مدخراتهم شهرياً إلى عوائلهم في كوسوفو، ومن ليس له قريب يعمل في الخارج يتلقى دعماً من جاره الذي له قريب يعمل في الخارج ويرسل له شهرياً جزءاً من المدخرات.

سهل أن تحمل سلاحك وتوجهه إلى صدر عدوك، فالمسافة الزمنية قصيرة بين أن تقتله أو يقتلك، لكن النضال عبر الوسائل الأخرى يحتاج صبراً وعزيمة لا ينفدان، ولكل سلاح حكمته، أكان بندقية أو تمرداً مدنياً، أو تعاوناً بشكل جماعي على شاكلة ما فعلته كوسوفو.

كنت أسمع وأشاهد حكايات نضالهم وأندهش، لم أكن متشائماً، لكن ما ظننت أنهم سينالون حريتهم على الأقل في حياتي، لكن المعركة بدأت، حين ملّ بعض الشباب من "سلمية" الزعيم الألباني إبراهيم روجوفا فقرروا تكوين فرقهم المسلحة. تصارع طويلاً الفريقان، لكن السلاح أعلى صوتاً، وفُرض الأمر الواقع، وبدأت الصدامات المسلحة بين الألبان المسلحين وبين قوات الشرطة أو الجيش الصربي، ثم بدأت المعركة الشهيرة التي تدخل فيها الناتو لصالح ألبان كوسوفو.

وعلى شاكلة ما حدث في البوسنة، توجه بعض المجاهدين العرب إلى كوسوفو، قيادات جيش تحرير كوسوفو رفضت وجودهم من أول لحظة، فهمتُ ذلك على أنه رسالة تطمين إلى الناتو وأوروبا، ومضت المعركة من دون العرب إلى أن تحقق لهم طرد الصرب ووضع الإقليم تحت الرعاية الأوروبية، ثم لاحقاً الاستقلال.

ائتِ إلى كوسوفو، إلى أي مدينة أو بلدة أو قرية، اطرق باب أي بيت، أي بيت، واسأل، لن تعدم عائلة إلا وتحكي لك عن معاناتها في الزمن الصربي، ألف حكاية وحكاية يمكن أن تسمعها هناك، وقبل الحكايات ستشاهد بنفسك قبور الشهداء في كل مكان، سواء المدنيين الذين قتلوا على يد الصرب في مذابح فردية وجماعية، أو مقاتلين خلال المعارك.

لكن غير حكايات الضحايا، هناك حكايات النضال والمقاومة، ولذا تحقق لهم ما تحقق وفازوا باستقلالهم. في نظري لا أحد يهزم الشعوب، الهزيمة إن وقعت تلحق بالقادة، وكان لافتاً بالنسبة لي في كل زيارة إلى بريشتينا العاصمة بعد الانسحاب الصربي أن أجد الدم وقد تدفق في العروق، بدت المدينة لي وكأنها تخرج من نوم أهل الكهف، الناس في الشوارع، الشركات والمصانع التي تفتح أبوابها، المطاعم والمقاهي، كل شيء، كل شيء كان يعلن ولادته من جديد.

كانت ظاهرة بالنسبة لي محطات التزود بالوقود التي انتشرت هنا وهناك، ليس في نشأتها ولكن فيمن امتلكها، فقد وزعت بصورة أو بأخرى على شباب جيش تحرير كوسوفو الذي خاض معركته ضد الصرب، فهمتُ ذلك على أنه مكافأة للجهود المبذولة، ولكن رويداً رويداً زاد الأمر عن حدّه، ومرّت السنوات وبدأ الحديث يخرج إلى العلن.

جيش تحرير كوسوفو تحول إلى الحزب الديمقراطي الكوسوفي، وترأسه هاشم تاتشي القائد المقاتل العنيد، ضمن العملية السياسية التي بدأت مع تأسيس الإدارة الدولية في كوسوفو، وانتهت بفوز هذا الحزب في انتخابات نوفمبر عامين ألفين وسبعة، وتشكيل تاتشي الحكومة التي أعلنت الاستقلال عن صربيا في السابع عشر من فبراير عام ألفين وثمانية، لاحقاً اتهمته تقارير محلية ودولية بالضلوع في ارتباطات بالمافيات التي تسيطر على تجارة المخدرات وتهريب النفط والبشر.

الناشر الكوسوفي المعروف فيتون سوروي أصدر كتابه "أرجل الثعبان"، الذي يحكي فيه سيرة هاشم تاتشي وأهم رجالات جيش تحرير كوسوفو، وكيف أن تاتشي عمل من خلال علاقاته مع عصابات المافيا على السيطرة على مفاصل الاقتصاد والدولة الكوسوفية خلال ولايتين من حكمه.

صديقي البروفيسور محمد الأرناؤوط تعرض في كتاباته لهذا الكتاب الذي قال إنه خصّص خمس صفحات للعلاقات بين هاشم تاتشي وجماعته وبين إسرائيل، وفيه يكشف المؤلف أن تاتشي كان يرأس فريق التفاوض الكوسوفي مع صربيا في فيينا الذي انتهى عام ألفين وسبعة باقتراح الرئيس الفنلندي آنذاك مارتي أهتيساري مشروعه حول "الاستقلال المشروط".

وذكر الكتاب أن التشاور بدأ بين الفريق الكوسوفي حول الدول المؤثرة التي يمكن أن تساعد في تأمين الاعتراف الدولي باستقلال كوسوفو ليفاجأ الحاضرون بتاتشي يقترح أن يتم ذلك من خلال السفارة الإسرائيلية في واشنطن.

اعتقد الحاضرون في تلك اللحظة أنها مزحة أو غلطة، ولكن تاتشي أكد ذلك ثانية في نهاية الاجتماع مع اندهاش الحاضرين، فقد كان المطلوب اقتراح دولة أو دول لها تأثير في العالم العربي الإسلامي، ولذلك لم يكن مفهوماً كيف يمكن لإسرائيل أن تضغط على دول عربية وإسلامية للاعتراف بكوسوفو.

ويكشف المؤلف عن زيارة قام بها تاتشي مع رئيس جهاز الاستخبارات في جيش تحرير كوسوفو "قدري فيصلي" للكيان الصهيوني عام ألفين وسبعة، أي عشية إعلان استقلال كوسوفو، حيث قابل تاتشي بعض السياسيين، بينما انشغل فيصلي بلقاء مسؤولين في الموساد.

وفي غضون ذلك – والحديث منقول عن أرناؤوط ـ لفت الأنظار أن تاتشي حرص على اتخاذ شاب إسرائيلي مستشاراً له حتى يرشده إلى عالم الموضة، بعد أن كان يكتفي أيام الكفاح المسلح بالسترة الفيتنامية، وكيفية التعامل مع الأحداث والتصريح عن ذلك بالشكل المناسب وفي الوقت المناسب.

وربما تفيد هذه الخلفية في فهم موقف تاتشي خلال حرب غزة، بالتعبير عن إعجابه بإسرائيل على صفحته في مواقع التواصل الاجتماعي، مستذكراً زيارته إسرائيل عام ألفين وسبعة التي اعترف بها علانية للمرة الأولى.

الكتاب تعرض أيضاً إلى "حازم سيلا" القائد العام السابق لأركان جيش تحرير كوسوفو، فقد كشف أنه لجأ إلى سويسرا عام ألف وتسعمائة وأربعة وتسعين وحصل على صفة لاجئ سياسي من يوغوسلافيا التي كان يحكمها ميلوشفيتش، ثم عرض على السلطات وثائق تثبت أنه عاجز بنسبة مائة في المائة لكي يحصل على تقاعد صحي مجز، ولكن السلطات السويسرية اكتشفت لاحقاً أن هذا العاجز أصبح عام ألف وتسعمائة وتسعة وتسعين رئيس أركان جيش تحرير كوسوفو ثم نائباً في البرلمان الكوسوفي، لترفع عليه دعوى لاسترداد نصف مليون فرنك سويسري.

وكشف الكتاب أيضاً كيف أن هذا العاجز تابع دراسة الماجستير والدكتوراه في الولايات المتحدة وأصبح اسمه د. حازم سيلا في سيرته الذاتية الموجودة في البرلمان الكوسوفي، ليتبيّن الآن مع الكتاب أن لا وجود لاسمه في جامعة لاينيز في ولاية نيو مكسيكو التي ادعى أنه حصل على الدكتوراه منها.

هل أنت مندهش مما قرأت؟ أنا مثلك، وربما أكثر لأني شاهدت هؤلاء الناس والتقيت ببعضهم، وأعرف كيف كانت الظروف حينها، الرصاصة والقذيفة والحروق والتعذيب إن سقطت أسيراً، الخندق والجوع والبرد، وهذا أدعى أن أسأل نفسي كيف لمقاتل خرج من بيته وقد وضع روحه على كفه، لا يعلم إن كان سيبقى حياً أو يموت، أن يتحول إلى مثل هذه الكائنات؟

لماذا يتغير المناضلون، لماذا يستبدلون البندقية بالكرسي، لماذا يتنازلون عن أرواحهم الطاهرة، لماذا تتلبسهم الشياطين لقد غامروا بحياتهم ولم يكونوا على ثقة أبدا أنهم سينتصرون، أو على الأقل سيكونون أحياء عند الانتصار، ورغم ذلك يتحولون إلى هذا النقيض. لقد اكتشفت أن بعض الشعوب تنتصر فيما تكون الهزيمة من نصيب قادتها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد