في اليوم الأول لتصويت أعضاء حزب العمال البريطاني المعارض لاختيار زعيم للحزب في انتخابات مفصلية في تاريخ حزب العمال والتي بدأت يوم 14 أغسطس/ آب، وهو اليوم ذاته الذي يوافق الذكرى الثانية لمذبحة فض اعتصام رابعة العدوية في القاهرة. حدث يصفه جيرمي كوربن الذي يتصدر استطلاعات الرأي لزعامة أحد الحزبين الكبيرين في بريطانيا بأنه يوم حزين جدا.
كوربن الذي يصفه كثيرون بأنه داعم للقضايا العربية في الأوساط البريطانية كما أنه يعد من أكثر مناهضي العنصرية والتطرف في اوروبا قال في حديث لـ "عربي بوست"بإن هذه الذكرى تحل ونتذكر أناسا فقدوا حياتهم فيها من دون داع لذلك. كما أعرب عن قلقه الشديد حيال أعداد من قتلوا وحيال أعداد الصحفيين الذين لا يزالون يقبعون خلف القضبان في مصر.
سألته عن ما إذا كانت هناك مصلحة بريطانية اقتصادية تقتضي دعم حكام عرب متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية واستقبالهم بشكل رسمي في البلاد، فأجاب: أسعى لأن تكون بريطانيا رائدة في مجال حقوق الإنسان ودعم العدالة حول العالم وتمارس الضغوط من أجل تدعيم فكرة العدالة للجميع ويشمل هذا حماية المتظاهرين السلميين والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين.
سلوك سياسي جديد في السياسة البريطانية
حديث الرجل عن العدالة وحقوق الإنسان يشبه كثيرا من السياسيين حول العالم، لكن ثمة ضجة حول شخصيته وتاريخه تشي بأنه يريد تحويل هذا النوع من الخطاب إلى سلوك سياسي جديد في السياسة البريطانية، حتى تجاوز الأمر الجدل حول هويته كمرشح إلى الحديث عن ظاهرة سياسية جديدة في السياسة البريطانية اسمها جيرمي كوربن.
فليس مألوفا أن يصعد سياسي غربي مثل كوربن في دولة أوروبية كبيرة كبريطانيا ويكون قاب قوسين أو أدنى من زعامة حزب يتناوب حكم البلاد مع حزب آخر. ومناط الدهشة أنه من أكبر الداعمين لحقوق الشعب الفلسطيني والمناضلين من أجل رفح الحصار عن غزة، بالإضافة لمعارضته الشديدة للغزو البريطاني للعراق عام ٢٠٠٣ والسياسة الخارجية البريطانية بشكل عام المتبعة مع الدول العربية والإسلامية.
فوجئ كثيرون بأن لهذا النائب العمالي القادم من خارج دائرة المسئولين وقيادات حزب العمال شعبية كبيرة، توشك على اكتساح الانتخابات والفوز برئاسة الحزب، ومن ثم لا يفصله على رئاسة وزراء بريطانيا سوى أن يصعد الحزب من المركز الثاني إلى المركز الأول في الانتخابات النيابية القادمة.
كوربن يمثل تيارا يساريا في حزب العمال أفل نجمه داخل الحزب منذ نحو عقدين من الزمان حين أتى لزعامته توني بلير مبشرا بما وصفه بحزب العمال الجديد. إذ كان بلير شابا يافعا آنذاك واتبع سياسات تقترب أكثر من اليمين وسياسات حزب المحافظين، حتى أفاق الحزب بعد هزيمتين انتخابيتين عام ٢٠١٠ و٢٠١٥ تاركا الحكم في قبضة غريمه حزب المحافظين اليميني وباحثا عن قيادة وهوية جديدة وجدت ضالتها في شخصية كوربن كما يرى أنصاره.
زيادة معدلات العنصرية في بريطانيا
في حديثه مع هافنغتون بوست عربي قال جيرمي كوربن إنه يشعر بالقلق الشديد من زيادة معدلات العنصرية وعدم التسامح وظاهرة اليمين المتطرف في أوروبا. مضيفا أنه نائب برلماني عن دائرة انتخابية في شمال العاصمة لندن هي شمال إزلنتغتون والتي بها مساجد وكنائس ومعابد، ويرسل دائما رسائل مستمرة لسكان الدائرة أن احترام كل منا لعقيدة الآخر أمر أساسي وأن أي اعتداء على أي من هذه الأماكن هو جريمة نكراء تستوجب التصدي لها ومواجهة أي نوع من العنصرية. وضرب مثالا بمحاولات حركة بيغيدا الألمانية المعادية للإسلام تنظيم مظاهرة في مدينة نيو كاسل شمال انجلترا وسعيها لفتح فرعا لها هناك، فخرج أهالي المدينة بأعداد كبيرة ليعلنوا بوضوح أن العنصرية لا مكان لها في بريطانيا. ويشير إلى أن مثل هذا السلوك هو امتداد لما فعله جيل أبويه في الثلاثينات من القرن الماضي حين تصدوا للهجمات الفاشية التي كانت تستهدف اليهود القاطنين في شرق لندن.
توني بلير: فوز كوربن برئاسة حزب العمال سيعرض الحزب للاندثار
حديث كوربن عن المجتمع متعدد الثقافات وضرورة إحداث تغيير جذري في السياسة البريطانية داخليا وخارجيا مع شعبيته المتنامية دفع عددا من القيادات السابقة لحزب العمال لإعلان معارضتهم بشكل واضح لترشح الرجل والتحذير من أن فوزه سيكون كارثة للحزب وأن برنامجه الاقتصادي لا يصلح لبلاد. من هؤلاء رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الذي خرج عن صمته ليقول إن فوز كوربن برئاسة حزب العمال سيعرض الحزب للاندثار على حد قوله.
وقف جيرمي كوربن في اليوم الأول للتصويت أمام مؤيديه في العاصمة الأسكتلندية إدنبرة يعرض برنامجه الحزبي ويقص على الحضور ما سمعه من شخص مشرد يفترش الشارع ويحكي أنه كان ذا عمل لكنه فقد وظيفته ومن ثم مسكنه بسبب الظروف الاقتصادية. ويضيف إن هؤلاء هم من يلومهم حزب المحافظين الحاكم ويدفعون فاتورة التقشف الاقتصادي فيما يذهب أعضاء حزب المحافظين الحاكم للاستجمام ورحلات الصيد، على حد وصفه.
لا مانع من محاكمة بلير مكجرم حرب بسبب غزو العراق في 2003 إذا ثبت تورطه
ويفصِّل فيما يراه حلا لمشاكل بريطانيا الاقتصادية والتي تتمثل في العودة إلى جذور فكرة حزب العمال القائمة على دعم الفقراء والمهمشين ونظام الرفاه الاجتماعي وإعادة توزيع الثروة عبر فرض الضرائب على ذوي الدخول المرتفعة جدا، ويصف الاتجاه الذي نحاه الحزب مع توني بلير بأنه تخلى عن اليسار ووقف في الوسط من دون هوية واضحة.
ولا يخفي كوربن معارضته لسياسات توني بلير خاصة فيما يتعلق بحربه على العراق واعتبارها مقدمة لكوارث حلت بدول متوسطية منها سوريا وليبيا وخلقت مشاكل جمة في المنطقة. ولا يرى غضاضة في محاكمة بلير كمجرم حرب إذا ثبتت الاتهامات بحقه. كما يغرد جيرمي كوربن خارج السرب أيضا في العلاقة مع إسرائيل، ففي الوقت الذي يخطب فيه المرشحون الثلاثة لرئاسة حزب العمال ود اللوبي المؤيد لإسرائيل، يفاخر كوربن بمواقفه المناصرة لقضايا الشعب الفلسطيني وزياراته للضفة وغزة ومعاداته للسياسيات الإسرائيلية.
انحياز للفقراء
الوعود الاقتصادية التي يقطعها كوربن وإعلانه انحيازه للفقراء داعبت خيال قطاع كبير من الطلاب منهم شيلى أسكويث، الطالبة بجامعة لندن ونائب رئيس الاتحاد الوطني لطلاب بريطانيا والتي تقول إن ما يعد به كوربن أحيا لديها الأمل في عودة مجانية التعليم الجامعي في انجلترا والمخصصات المالية التي كانت تصرف للطلاب.
وتضيف إنها تدرك جيدا ماذا يعني هذا الأمر لكثير من العائلات لأنها الوحيدة في أسرتها التي استطاعت الالتحاق بالتعليم العالي. شيلي وغيرها من القريبين فكريا من حزب العمال لكنهم قرروا العزوف عن النشاط السياسي الحزبي منذ فترة طويلة نشطوا داخل الحزب خلال الفترة الماضية قائلين إن كوربن أحيا لديهم الأمل في إمكانية التغيير عبر العمل الحزبي.
ويحظى كوربن أيضا بدعم النقابات العمالية التي تعد العمود الفقري لحزب العمال، لكن سياسة بلير قلصت من نفوذها بشكل كبير بعد الضربة التي تلقتها هذه النقابات في عهد رئيسة الوزراء السابقة عن حزب المحافظين مارجريت تاتشر وتشعر بقلق متزايد حاليا من نوايا حزب المحافظين الحاكم.
مناصروه: إذا فشل كوربن في الفوز برئاسة الحزب ، فيكفي أنه أحدث زلزالا في السياسة البريطانية
يتندر كثيرون على من تولوا رئاسة الوزراء من زعماء حزبي العمال والمحافظين في بريطانيا بأن تخرج قطاع كبير منهم من مدرسة إيتن الثانوية التي يرتادها أبناء الطبقة الراقية ثم الالتحاق بجامعة أوكسفورد العريقة ليس مصادفة للدلالة عن أن رئاسة الوزراء لا تخرج عن طبقة معينة وإن اختلفت الأحزاب الحاكمة. فهل يستطيع جيرمي كوربن أن يكسر هذه القاعدة؟.
مناصروه يقولون، حتى إذا حدثت مفاجأة في الانتخابات ولم يفز برئاسة الحزب رغم تصدره استطلاعات الرأي، فيكفي أنه أحدث زلزالا في السياسة البريطانية وشجع قطاعا واسعا من الشباب وغير الناشطين حزبيا على خوض غمار العمل الحزبي وأن هذا بحد ذاته تغيير حدث بالفعل سيكون له أثر ملموس مستقبلا.