معروف في حرب 1948 مشاركة شعوب ودول المنطقة العربية، كمصر والأردن وسوريا والعراق والسعودية ولبنان واليمن، إلا أن مشاركة مسلمين ليسوا بالعرب ضمن وحدة الصف الإسلامي لم تحظ بانتشار إعلامي كبير، أحد هؤلاء هم بوشناق فلسطين، مسلمو البوسنة والهرسك.
تعرضوا للتهجير مثلهم مثل كل عربي فلسطيني، وضرب عليهم اللجوء إلى نابلس وطولكرم وجنين، وإلى جوار الفلسطينيين لا يختلفون عنهم شيئاً، ثم كانوا إلى جوارهم في القتال عن يافا والقسطل من العصابات اليهودية، وأياً كانت أعدادهم التي لا تزال موضع شك وتفحص، تظل سيرتهم استثناء واستجابة مباشرة لتفاعل العالم الإسلامي مع الحدث في فلسطين، وليس مقصوراً على العرب فحسب.
من هم البوشناق؟
ينحدر بوشناق فلسطين من مسلمو البوسنة، وهم من شعوب السلاف الجنوبيين، ينقسم السلاف إلى 3 فروع رئيسية، الشرقيون، وهم الذين اعتنقوا المذهب الأرثوذكسي وخضعوا للكنيسة الأرثوذكسية في القسطنطينية، كالروس وشرق أوكرانيا، الفرع الثاني الغربيون، وهم الذين اعتنقوا المذهب الكاثوليكي، ويقطنون صربيا ويشكلون الأكثرية في شعوب شرق أوروبا.
وأخيراً السلاف الجنوبيون، وهم الذين كانوا يعتنقون المذهب البوجميل الإصلاحي، الذي انتشر في منطقة البوسنة والهرسك بين القرنين العاشر والخامس عشر الميلادي، وأسلم معظمهم جراء الصراع العثماني مع المجر وبابا روما.
كانت معتقدات السلاف البوسنيين تتوافق مع العديد من التعاليم الإسلامية، إذ اعتنقوا "البوجوميل" وهي حركة مسيحية غنوصية ظهرت كردة فعل على اضطهاد الكهنوتي التي قامت به الكنيسة البيزنطية، وانتشر المذهب من بلغاريا عند السلاف الجنوبيين في البوسنة والهرسك.
وتقوم معتقداتهم على إنكار المعمودية، وأن المسيح مثل ابن لله بنعمة الله عليه كالأنبياء، وإنكار الإفخارستيا الطقوس المتعلقة بالخبز والخمر، وأنه لا يتحول لجسد ودم، كما يحرمون الخمر، ولا يؤمنون بالأقانيم، وأن الله هو من يحاسب البشر وليس المسيح.
دفع معتقداتهم مع اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية لهم، وكذلك الكنيسة البلغارية والصربية الأرثوذوكسية إلى تقاربهم مع المسلمين، ومع فتح السلطان العثماني محمد الفاتح البوسنة 1463م، ثم الهرسك، أسلموا جماعات بشكل طوعي، واندثر هذا المذهب، وسُمي هؤلاء السلاف المسلمون بشعوب البوشناق.
كيف جاء بوشناق فلسطين إلى هذه البلاد؟
كانت الحركة داخل الدولة العثمانية سهلة إلى حد كبير، إلا أن اقتطاع الأرض أو السكن لطائفة أو عرقية كان مقصوراً على قرارات الباب العالي، خصوصاً في القرن الثامن عشر وما بعده، إلا أن هذا العرف كان في فلسطين والأراضي المقدسة كالقدس ومكة أقدم من وجود الدولة العثمانية، فقد اقتطع ابن صلاح الدين للمغاربة حارة بجوار المسجد الأقصى.
كان من أحد أبرز القادة العثمانيين من البوشناق له ذكر خاص يتعلق بفلسطين، إذ كان أحمد باشا الجزار والي صيدا، والذي قاد عكا في الصمود التاريخي أمام جيش نابليون، لكن قدوم البوشناق كجماعة أتى بعد ذلك، تحديداً مع اتفاقية اجتماع برلين، بعد إنهاك الدولة العثمانية بسبب الحرب الروسية العثمانية، أدت الهزيمة إلى مطالبة روسيا بأقاليم قارص وباتومي.
طبقاً لمؤتمر برلين، تنازلت الدولة العثمانية عن البوسنة والهرسك التي منحت للدولة المجرية النمساوية، مع تخوفات المسلمين من السيطرة المسيحية على تلك البلاد، بدأت هجرة نزوح باتجاه العاصمة الآستانة وبلاد الشام، ومع موافقة السلطان باستقرار عائلات من البوشناق في الشام، بلغ تعداد البوشناق اليوم في سوريا أكثر من 250 ألف نسمة.
بين 1878-1883م حدثت الهجرة الأولى للبوشناق إلى تركيا، وحدثت هجرات مع اندلاع حروب البلقان 1912، إلا أن أوسع تلك الهجرات كانت في 1919 بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ومنها قدمت إلى فلسطين أكثر من 400 عائلة استقرت خمسين عائلة منها في قيسارية، التي كان البوشناق استوطنوها في هجرتهم الأولى إلى فلسطين، وبذلك ظهر بوشناق فلسطين.
كانت قيسارية عبارة عن خرائب ولها ميناء مهجور، فبنوا مسجداً وسوقاً، وانتشرت البيوت في البلدة، واستصلحوا أرضها وزرعوها بالموالح، وكان استيطانهم هناك هو شهادة فلسطينيتهم، إذ تزوّجوا من الفلسطينيين، وتحدّثوا اللغة العربية وتداخلت ثقافتهم حتى في الطعام من من حولهم من سكان المنطقة.
بحسب المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي، في كتاب "لكي لا ننسى"، بلغ تعداد سكان قيسارية 930 مسلماً و30 مسيحياً عام 1945، ناهيك عن انتشارهم في قرى أخرى مثل قرية يانون التابعة لقضاء نابلس التي أقيمت فيها مقبرة خاصة بهم، وفي قرية رمانة التابعة لقضاء جنين، وفي مدن طولكرم، ورام الله والقدس. وقد تعددت أسماء هذه العائلات، مثل لاكشيتش، وبيغوفيتش، ومرادوفتش، وجيهانوفيتش وغيرها، ثم باتت تُعرف باسم واحد هو بوشناق.
تعرضت قيسارية للتهجير الكامل من قِبل عصابات الصهيونية في حرب 1948م، وانتهى الحال بالبوشناق مهجرين للمرة الثانية، فمنهم من هجر إلى سوريا ولبنان، وآخرون إلى الضفة الغربية والأردن، إذ كان مصيرهم وسكان جنوب الشام من عرب وشركس واحداً.
كيف ناضل بوشناق فلسطين في حرب 1948؟
أثناء الحرب العالمية الثانية، كان للحاج أمين الحسيني دور في استقطاب البوسنيين، إذ تحالف الصرب والكروات مع النازية، وكادوا أن يفتكوا بالبوشناق، إلا أن محاولاته بما يتمتع من علاقات ساهمت في تخفيف ذلك الأمر إلى جوار أسباب أخرى.
تلى ذلك انفتاح مصر على العالم البلقاني بسبب سيطرة الأحزاب الشيوعية على صربيا وألبانيا، تطلع الملك وقتها للحصول على شرعية في العالم الإسلامي، إذ مدت مصر بعض الأواصر مع الضباط البوسنيين الذين فروا من أحكام الإعدامات الشيوعية تجاههم.
تزامن مع اهتمام مصر بمسألة البلقان، اتجاه جامعة الدول العربية وعبد الرحمن عزام أول أمين لها؛ إلى استقطاب النخب العسكرية التي فرت بعد سيطرة الأحزاب الشيوعية على بلادهم، وأصبح عليهم أحكام بالسجن أو الإعدام، نظراً لانتمائهم للإسلام مع صعود الاتجاه اللاديني والعلماني إلى سدة الحكم.
بدأ يتوافد هؤلاء الضباط إلى القاهرة، وما إن وقعت الحرب حتى اندفعوا إلى فلسطين ليشاركوا في الحرب، كان الدافع الرئيسي لهم هو حماية الإسلام وأهله، إلى جوار توظيف قدراتهم العسكرية، وتحقيقاً لذواتهم ودفاعاً عن المظلومين العرب في حرب التطهير العرقي الذي شنتها العصابات الصهيونية.
ماذا قدّم بوشناق فلسطين في حرب 1948؟
مع وصول المتطوعين البوشناق إلى فلسطين شاركوا في تدريب الفلسطينيين على السلاح، كما انضم بعضهم كخبراء عسكريين في المتفجرات، وشاركوا في بعض المعارك في القسطل ويافا والمالكية، وتحدث القيادي الفلسطيني شفيق الحوت عن شهادته على إحدى مجموعات البوشناق في حي المنشية بيافا تقاتل عنها في الحرب العربية.
وقد كانت أغلب الشهادات تتحدث عن شجاعتهم واستبسالهم في القتال، كما أن جميع الشهادات تواترت عن كونهم كانوا مؤمنين بعدالة القضية التي يقاتلون من أجلها، كما نقل محمد قاروط عن الأستاذ زهير الشاويش قوله: "إن أحد هؤلاء المجاهدين البوسنيين، واسمه إسماعيل البوسني، قام بتعليم مجموعة مجاهدي دمشق كيفية صنع القنابل والألغام، وكان لي مع المجاهدين البوسنيين صلات كثيرة".
لم يكتفِ البوشناق بالتدريب، إذ شاركوا في معارك يافا والقسطل وترشيحا وسعسع والشجرة وكابرة وطولكرم، وارتقى منهم شهداء أبرزهم علي بولو باشش، وهابر وديثابو اللذين استشهدا في معركة القسطل، وكامل بودورغ استشهد في يافا، وأمين خليلوفتش ومحمر رامش وحسن بشيش ومنيب بينو ومصطفى أماموش، الذين ارتقوا في معركة المالكية.
ويشير المؤرخ السوري الكوسوفي محمد الأرناؤوط إلى أن أعداد البوشناق الذين شاركوا في الحرب بين 300 و500 بوسني، في حين ذكر المؤرخ عارف العارف أن عدد المقاتلين عن يافا من البوشناق هو 34 بوسنياً من أصل 4976 مقاتلاً فلسطينياً.
بوشناق فلسطين إلى أين؟
أصبح بوشناق فلسطين جزءاً من الهوية الفلسطينية والكفاح المسلح بعد النكبة، كان اللجوء الأبرز لبوشناق فلسطين إلى سوريا والضفة الغربية، وشارك بعضهم في الكفاح المسلح، إذ كان علي بوشناق أحد مؤسسي جبهة التحرير الفلسطينية إلى جوار أحمد جبريل عام 1959.
واستُشهد منهم رامز بوشناق في قرية كفر مندا في الجليل في أكتوبر/تشرين الأول عام 2000، وأُسر منهم في سجون الاحتلال محمود وحسام وأمين بوشناق من قرية رمانة في محافظة جنين، وانخرط البعض ممن بقي في داخل الأراضي المحتلة في النشاط السياسي العربي كإبراهيم بوشناق.
وساهم البوشناق في بلورة الهوية الفلسطينية، إذ برز منهم الأديب عبد الرحمان بوشناق، توفي 1999، والذي وُلد في قيسارية 1913، وتلقى تعليمه الابتدائي في طولكرم، وحصل على الثانوية في الكلية العربية بالقدس، وأكمل دراسته في الجماعة الأمريكية ببيروت، ثم جامعة اكسترا وكبردج في بريطانيا، وعُيّن أستاذاً للأدب الإنجليزي في الكلية العربية في القدس، وتولى وكالتها، وبعد النكبة هاجر مع عائلته التي تركت قيسارية إلى الأردن، مستقراً في عمان. وقدم إسهامات للأردن صار عضو للجنة المناهج والكتب عام 1964، وعُين عضواً في اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة.
وقد كان أول مذيع في إذاعة هنا القدس التي أسسها البريطانيون عام 1936 هو الإعلامي محمد بوشناق، والتي انضم إلى تلك الإذاعة الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان. وساهم البوشناق في بلورة الهوية الفلسطينية منهم الفنان التشكيلي محمد بوشناق، الذي توفي عام 2017، وقد وُلد محمد في قرية الشيخ جراح بالقرب من مدينة حيفا ثم هجر إلى مدينة الخليل، حيث برزت موهبته في الرسم والنحت، ومنها هاجر إلى الكويت، ويستقر فيها ويأسس "المرسم الحر"، وابنته الفنانة سوزان بوشناق.
صار بوشناق فلسطين إلى ما صار إليه كل الفلسطينيين، من شتات ونضال وأسر واستشهاد، أو انصراف إلى تحقيق الذات والنجاح الشخصي، كما حملتهم أرض فلسطين مطلع القرن العشرين، وحدت مآسيهم النكبة، إذ هم مواطنون فلسطينيون لا يعرفون وطناً سواها، وإن بعُدت عنهم الشقة.