عند قراءة نص أجنبي عن تاريخ إثيوبيا، تجد أن بلقيس ليست يمنية، بل ليست بلقيس، فاسمها ماكيدا، يتكرر الأمر في الأعمال الفنية والمسلسلات الأجنبية، عن ملكة إثيوبية تزوجت من سليمان، عليه السلام، وأنجبت ولداً أتى منه حكام إثيوبيا، آخرهم الإمبراطور هيلاسيلاسي توفي 1975.
هذا النزاع بين اليمن واثيوبيا حول من أحق بالمملكة السبئية، مرده التاريخ اليهودي المضطرب من جهة، ومن جهة أخرى النظرة المسيحية للعالم العربي والإسلامي، وتوظيفها في الحروب الصليبية ضد المسلمين، فما قصة الملكتين؟ ومن أحق بها اليمن أم إثيوبيا؟
بلقيس ملكة اليمن
بالعودة إلى عهد سليمان (عليه السلام) في أرض سبأ والتي يعتقد أن معبد الشمس موجود في منطقة مأرب حالياً، نجد أن أحد ملوك حمير في اليمن هو الهدهاد بن شرحبيل، وفي وقت موته اجتمع بمستشاريه وقال لهم إنه لم يرَ في حياته مثل بلقيس رأياً وعلماً وحُلماً، فتولت حكم مملكة سبأ والتي كانت تشمل اليمن بأكمله وتضم بعض الأراضي المحيطة به.
ذكرت كتب التاريخ العربية والأساطير اليمنية في قصيدة نشوان الحميري توفي 573 هـ – 1178م؛ أن بلقيس تمكنت من قتل ملك جبار ظالم أذى الكثير من الناس تحت ملكه، كان يُسمى عمرو ذا الأذعار حيث تمكنت من الاحتيال عليه وتمكنت من قتله ثم علقت رأسه على أبواب المدينة، وكانت هذه اللحظة التي جعلت أمراء حمير وملوكها وأبناءها سلموا إليها الزعامة ولم يعترضوا على توليها الحكم، وأصبح تحت إمرتها ألف ملك وألف قيل "الأقيال شكل للحكم في اليمن"، بالإضافة إلى 360 امرأة من أشراف بنات حمير.
رمَّمت بلقيس سد مأرب العظيم والذي صمد لآلاف السنين قبل إعادة بنائه في عام 1982 مولت الإمارات العربية إعادة البناء وافتتح عام 1986. بنت بلقيس لها قصراً من أسطوانات رخام فوقها قصر مربع توجد به قبة ذهب في كل زاوية من زواياه، ويُقال إن طول عرش بلقيس يصل إلى 15 متراً ويصل ارتفاعه إلى السماء وصُنع من الذهب الخالص ومزين بالياقوت.
وعلى الرغم من كل السلطة والنفوذ التي تحيط بها من كل جانب إلا أنها كانت تعبد الشمس من دون الله، وذكر القرآن الكريم حكايتها مع الملك سليمان. وهي القصة المعروفة العرش والهدهد، وقد حملت إحدى سور القرآن اسم المملكة اليمنية "سبأ".
يحتفي اليمنيون إلى اليوم بحكمتها وقدراتها القوية في تقييم المواقف السياسية والعسكرية حين أرسلت هدية لسليمان، عليه السلام. وتبين ذكاء بلقيس وفطنتها حين عرض سليمان، عليه السلام، عليها عرشها في القدس بعد أن تغيرت فيه بعض التفاصيل حين قالت (كأنه هو) دوناً عن النفي أو الإيجاب على سؤال سليمان هل هذا عرشها؟
الآثار اليمنية التي تخص مملكة سبأ
1- مدينة مأرب القديمة
تعود تلك المدية إلى القرن الـ11 قبل الميلاد، ويظهر في مدينة مأرب التاريخية وجود نظام ري شامل يبين مدى التقدم والبراعة في مجال الهندسة المائية والتي لم يسبق لها الظهور من قبل في شبه الجزيرة العربية، واُكتشف مؤخراً وجود بوابات للمدينة موزعة في مختلف الاتجاهات، ويوجد بها قصر الحكم يُسمى (سلحين)، وذُكرَ في أحد النقوش عام 685 قبل الميلاد.
2- سد مأرب القديم
يعتبر سد مأرب القديم إحدى العجائب الهندسية وقتئذٍ، ويبلغ السد نحو 15 متراً قائم على الحجر والطين، كما أن له بعض المنافذ التي تفتح وتغلق اعتماداً على الاحتياج لتصريف المياه لري الأراضي الزراعية. أصبح هذا السد في وقتنا هذا بحيرة مائية عملاقة طولها 30 كيلو متاً مربعاً، وشُيّدَ سد حديث في نفس مكان السد القديم ومشابه لمواصفاته على بُعد 12 كم في اتجاه جنوب غرب مدينة مأرب افتتح عام 1986م.
3- معبد برآن (عرش بلقيس)
يرجع تاريخ البقايا من معبد برآن إلى القرن السادس والخامس قبل الميلاد، ويُقال إن به عرش بلقيس وهو أمر غير مؤكد، ويعتبر الأشهر في الآثار اليمنية التي تخص مملكة سبأ، وقد بُنِي نصب الجندي المجهول في ميدان السبعين على شكل أعمدته، ويقع المعبد على بُعد 1400 متر في اتجاه الشمال الغربي من محرم بلقيس، ومحرم بلقيس يعتبر المكان الرئيسي لعبادة إله الشمس "ألمقة" كما كان يسمى عند اليمنيين القدماء، كان المعبد مغطى بالرمال الصحراوية حتى عام 1988 حيث كُشف عن معمار متناسق به وحدات أهمها وحدة تسمى قدس الأقداس، كما أن به 6 أعمدة مزخرفة يبلغ ارتفاع كل واحد منها 12 متراً ويزن 17 طناً.
4- معبد أوام
يشير التاريخ إلى تشييد معبد أوام إلى القرن العاشر الميلادي، ويعتبر أقدم المعابد التي توجد في شبه الجزيرة العربية، وظل الناس يتعبدون فيه حتى بداية النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي، ويحيط به سور مزخرف بالأحجار والنقوش وخطوط المسند.
5- مدينة صرواح (منتزه بلقيس)
تبعد مدينة صرواح عن مدينة مأرب حوال 40 كم، واعتماداً على أن المؤرخين اعتبروا أن تلك المدينة عبارة عن استراحة للصيد فقط ولم تكن يوماً مركزاً للحكم، وتشتمل على 8 مبانٍ فقط؛ فلا يمكن أن تتم مقارنتها مع باقي المدن نظراً لصغر حجمها، وتحتوي هذه المدينة على قصر الملكة ونقش النصر الذي يتكون من 20 سطراً تتحدث عن إنجازات الملك في سبأ في توحيد اليمن.
ماكيدا ملكة سبأ الإثيوبية
عام ألف قبل الميلاد يعتقد أنها الفترة التي حكمت فيها ماكيدا إثيوبيا بحسب الأسطورة الإثيوبية، في فترة حكم ماكيدا لإثيوبيا وسعت أراضيها وزادت ثرواتها، كما أنها سعت لتشييد الكثير من المباني الهامة التي تجعل المدن في أفضل شكل وشمل هذا المعابد والقصور. اشتهرت ماكيدا بحكمها العادل والرحيم، يُعتقد أن مملكة سبأ جاءت من كلمة سابا، وهي ما تُعرف باليمن حالياً في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، ويًقال إنها مملكة أكسوم في إثيوبيا في شرق أفريقيا، وكلا البلدين يطالبان بإرث المملكة على الرغم من البعد الكبير بين البلدين جغرافياً.
يفسر النصارى الروم والغربيون أن ماكيدا هي المذكورة في الكتاب المقدس، إذ يذكرها بأنها ذهبت إلى القدس لكي تطلب الحكمة من ملك اليهود الملك سليمان، والذي شيع عنه الحكمة والمعرفة وعلاقته القوية بالرب، فكانت تريد أن تختبر مدى حكمته ورشده، فأخذت قافلة ضخمة مليئة بالأحجار الكريمة، والكثير من الذهب والعنبر والأخشاب النادرة، بالإضافة إلى كميات كبيرة من التوابل الغربية، وعندما وصلت إليه امتحنته بكثير من الأسئلة الصعبة وبكل ما في قلبها، واندهشت كثيراً حينما أجاب سليمان عن كل أسئلتها.
طبقاً لأسطورة جلال الملوك Kebra Nagast -ملحمة مكتوبة في القرن الرابع عشر تعتبر ملحمة مسيحية إثيوبية- تقع مملكة سبأ القديمة في إثيوبيا، وتسمى الحاكمة باسم ماكيدا، وتقول تلك الملحمة إن سليمان يفتن بجمالها ويسعى بشتى الطرق أن يبقيها في قصره، يُقال إنها ظلت 6 أشهر، حتى أغواها سليمان فتزوجها وولدت له ولداً سُمي منليك الأول -غيره سليمان فيما بعد إلى داوود- وعند بلوغه سن العشرين يسافر إلى القدس لوالده وأصبح منليك أول الملوك على إثيوبيا.
الآثار الخاصة بمملكة سبأ في إثيوبيا
مؤخراً في القرن الماضي خلال الثمانينات بدأ اكتشاف بعض مناجم الذهب التي تعود إلى مملكة سبأ، بالإضافة إلى ظهور معبد وأرض معركة كانت تعود إلى موقع في هضبة الحبشة شمال إثيوبيا، والتي تمتد بين إثيوبيا واليمن بين القرن الثامن قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي.
بالإضافة إلى اكتشاف بقايا من قصر ملكة سبأ في أكسوم في إثيوبيا من قِبل علماء الآثار من الجنسية الألمانية عام 1999، وتعود هذه الآثار إلى القرن العاشر قبل الميلاد، ويُقال إن ابنها الملك منليك أعاد بناء هذا القصر حتى تكون في اتجاه ما يعبده وكان معروفاً باسم نجمة سيريوس.
ويُقال في بعض المصادر الدينية المسيحية في إثيوبيا إن ملكة سبأ تنبأت بظهور السيدة العذراء وبالتالي قد يتم الارتباط بينها وبين أرض إثيوبيا ارتباطاً روحياً، بدليل وجود رسومات ولوحات وجداريات تعبر عن ماكيدا على جدران الكنائس في إثيوبيا.
وطبقاً لبعض المسيحيين الأرثوذكس في إثيوبيا، يُقال إن الملك منليك قام بنقل تابوت العهد من هيكل سليمان في القدس إلى مدينة أكسوم في إثيوبيا، وهذا كان في القرن العاشر قبل الميلاد، وتم وضعه في كنيسة إثيوبية تم تشييدها من قِبل الإمبراطور هيلاسيلاسي.
من أحق بملكة سبأ بلقيس أم ماكيدا؟
بالنسبة للدين هناك اضطراب بين العهد القديم "التوراة" والجديد "الإنجيل"، إذ لا يحدد القديم مكانها التي قدمت منه، لكنه يركز على حجم الهدايا التي حملتها ملكة سبأ، أما الجديد فسماها بملكة "تيمن" وهي إشارة إلى يهود اليمن. وحددها المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس من القرن الأول الميلادي أن سبأ هي إثيوبيا.
وفي الإسلام لا يحدد القرآن الكريم مكان مملكة سبأ، لكن تعارف عربياً عن كونها في اليمن، وهي من الموروثات الشعبية التي كانت موجودة قبل الإسلام، تناقلها التبابعة وملوك معين وحمير، وهو التاريخ الشفهي الذي ألفه نشوان الحميري في قصيدة ملوك حمير وأقيال اليمن والذي توفي 573هـ – 1178م، التي تحكي عن رحبعام بن سليمان الذي حكم اليمن بعد أمه بلقيس التي تزوجت سليمان. وقتل في مواجهته مع الكنعانيين بسبب ردتهم بعد وفاة أبيه. أما في غالب السرديات فإن رحبعام خلف والده على مملكة الجنوب في القدس وليس في اليمن.
وهي نفس القصة التي خرج بها كتاب جلال الملوك "كبرا نجشت" الذي كتب في عهد يكونو أملاك في القرن الثالث عشر الميلادي، أي بعد قرنين من وفاة نشوان الحميري تقريباً، وكبرا نجشت خليط بين الأساطير اليمنية، والعهد الجديد والقديم، لترسيخ الحكم وإعطاء الشرعية.
إقرأ أيضاً: آخرها قصف صنعاء وصعدة والحديدة.. ماذا تعرف عن تاريخ الاستهدافات الأمريكية لليمن؟
إذ يعتبر كبرا نجشت هو أحد الكتب المقدسة في الكنيسة الإثيوبية، وعلى وجه الدقة فإن الكتاب يعطي شرعية للأسرة السليمانية، وهو أشبه بميثاق الحكم باعتبارهم من نسل سليمان عليه السلام، ولهم الحق في الحكم.
أما الآثار فهي إلى صالح اليمنيين والتي اكتشفت في ثمانينات القرن الماضي، لكن تظل الملكة الأشهر عالمياً هي ماكيدا وليس بلقيس، وذلك أن الغرب والنصارى يروجون كونها إثيوبية، وذلك لعدة أسباب أحدها الصراع مع المسلمين والعرب، ونفي وجود سبأ في اليمن، وفي ظل الحروب الصليبية كان هناك شق ثقافي بنزع أي سردية عربية.
ثانياً جرى تعزيز هذا الأمر أكثر مع الفترة الاستعمارية البرتغالية ثم الإيطالية، كنوع من إضفاء قداسة بصورة ما على إثيوبيا باعتبارها تمثل الأصالة، وذلك لتوظيفها للعب أدوار في شرق أفريقيا وفي البحر الأحمر، وأخيراً قصور الاكتشافات التاريخية، مع أن اليمن منذ الثمانينات تعزز احتمالية وجود من سبأ على أرضها إلا أن النظرة الاستشراقية ما زالت مسيطرة.
فأكسوم ازدهرت في القرن الخامس والرابع قبل الميلاد، في الوقت التي تذهب فيه الآثار اليمنية لإثبات وجود معبد الشمس في القرن الثامن قبل الميلاد، وسد مأرب أكثر من ذلك بكثير، لكن من المهم الإدراك حجم التداخل بين اليمن وإثيوبيا، إذ تشكل حكم سياسي يجمعهم في أوقات معينة، وقد يعتبر ذلك تفسيراً مهماً، فقد تكون بلقيس هي ماكيدا، وجدت في اليمن وامتد حكمها حتى جبال بال في إثيوبيا.