يحتار المرء من حجم الدمار الذي تعرضت له مدينة غزة، حيث تبدو كبلد ضربه زلزال عنيف أكثر من مرة حتى تهدم بنيانه، إذ يستحيل تصور كيف يمكن أن تُحرر فلسطين مع كل هذا الدمار الواقع، فما بالك إن كانت هناك عوامل طبيعية أخرى كالزلازل وموجات تسونامي، وهو ما يعيد للأذهان ما حدث في زمن حروب الاسترداد بقيادة عماد الدين ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي.. فماذا يخبرنا التاريخ إذن؟
لم يكن طريق صلاح الدين الأيوبي مفروشاً بالورود إلى حطين واستعادة بيت المقدس من الصليبيين، فكما كان القتال على أشده بين الصليبيين وأمير الموصل وحلب عماد الدين زنكي، ضرب زلزال حلب الكبير الذي أودى بحياة 230 ألف شخص، تبعته عشرات الزلازل في الشام التي أوقعت القتلى على كل الجبهات، يرصد المؤرخون تعرّض بلاد الشام لأكثر من أربعين زلزالاً في قرن واحد، خمسة منها كانت مدمرة وأوقعت عشرات الآلاف من القتلى، فيما عرف بالنشاط الزلزالي الكبير في القرن الثاني عشر الميلادي السادس الهجري، صعبت الزلازل الصراع على المسلمين في استرداد بيت المقدس، إلا أنه أعطى فرصاً لتحويل تلك التحديات إلى فرص في حروب الاسترداد.
هناك بُعد اجتماعي واقتصادي وسياسي لتلك الزلازل، فيما يمكن تعريفه بأزمنة الزلزال وما بعدها، حيث الأثر الإنساني لتقليل خسائرها التي ساهمت في تغيير خريطة التوازنات السياسية، والحركة البشرية للسكان، وصعود الترك والأكراد وانتصار المسلمين، بالأخص في تلك الأزمنة؛ حيث تعداد الكثافة السكانية لا يمثل سوى 6.25% من تعداد السكان اليوم. في هذا المقال نتعرض للزلازل في القرن الثاني عشر الميلادي، حيث شكلت الزلازل العالم الإسلامي لقرون تلت.
الشام: لحظات ما قبل النكبة!
جاء صلاح الدين ومن بعده الترك، هناك العديد من النظريات التي تناقش كيف أتى الترك إلى قلب العالم الإسلامي، أبرزها "نظرية الإزاحة"، حيث سبب الصعود الكبير للمغول وهزيمتهم السلاجقة الترك، أدى إلى اندفاعها نحو الغرب، تلك الإزاحة بدأت بشكل مبكر عندما دُفع الترك بسبب تراجع قبضة الصين التي كانت تستخدم القبائل المغولية والتركية كحاجز بشري بينها وبين المسلمين، أدى تراجع مركزية الصين وتعاظم قوة المغول إلى التفكير المنطقي لقبائل الترك للدخول في أحلاف مع الدولة العباسية ثم إسلام قبائل السلاجقة، وتأسيس الدول ثم الاندفاع نحو بغداد.
بدأت هجرات الترك باتجاه الغرب، أي إلى قلب العالم الإسلامي، حتى تأسست دولة الترك السلاجقة، التي انتزعت الحكم من البويهيين بدخولها بغداد، إلا أن الحديث عن تمدد واسع للترك وعلى كل الشرائح والفئات المكونة للمنطقة الوسط الإسلامي "الشام" لم تحدث إلا بعد ضعف الدولة الفاطمية، التي هيمنت على القلب الإسلامي، على الخصوص الجزء الجنوبي من الشام ومصر، وفي أحايين كان يمتد سلطانها إلى مكة والمدينة، وقد يتبادل هم والعباسيون السيطرة على مكة وشمال الشام، مع تمتع مناطق كثيرة بحكم أمراء ذاتي بمعزل تماماً عن سلطة بغداد والقاهرة.
استفز الحاكم بأمر الله مسيحيي الغرب بهدم كنيسة القيامة، وعدائه للطوائف المسيحية الرومية الكاثوليكية، مع تحالفه مع الكنيسة القبطية، أعطى ذلك ذريعة للأوروبيين بتسيير الجيوش لاحتلال قلب العالم الإسلامي، وهنا كانت الفرصة الأكبر لصعود العسكريين الترك والتمدد على حساب حكام تلك المناطق، وظهرت الدولة الزنكية على يد حاكم الموصل عماد الدين زنكي.
في هذه الأثناء مثل العرب نخبة كبار التجار والعلماء، أي الصف الثاني والأهم لتماسك الدويلات، في حين احتكر الأمراء الترك والأكراد قيادة الجند والإمارات المتقاتلة في العراق والشام، والتي استغلها الصليبيون في استدامة حكمهم لأكثر من 80 عاماً في الشام شمالاً وجنوباً، وسيطرتهم على بيت المقدس.
قرن من الزلازل المدمرة
في أثناء حروب صلاح الدين لاسترداد بيت المقدس حدثت زلازل عديدة، إذ يمكن تسمية تلك الفترة بأزمة الزلازل، إذ تعرضت بلاد الشام لسلسلة من الهزات الزلزالية العنيفة جداً قُدرت بأربعين زلزالاً كبيراً، تراوحت درجاتها بين 7 درجات و8.5 درجة على مقياس ريختر كما يعتقد العديد من العلماء، زلزال عام 1114م -موضح بؤرته في الخريطة-، قتل 100 ألف شخص. وزلزالا 1119- 1120 م قتلا الآلاف. ثم ضرب زلزال حلب الكبير بقوة 8.5 على مقياس ريختر الذي اعتبرته هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية رابع أكبر زلزال مدمر في تاريخ البشر المسجل وذلك عام 1138م الذي أودى بحياة 230 ألف شخص، كما تشير مصادر مؤرخي ذلك العصر، تهدمت فيه قلعة الأتارب للمسلمين، وتهدم للصليبيين حصن حارم.
بعد زلزال حلب بـ 18 عاماً في 1157م ضرب زلزال حمص بقوة 7 على مقياس ريختر وأودى بحياة سبعين ألفاً، وبعد زلزال حمص بـ 13 عاماً ضرب زلزال حماة الذي راح ضحيته 20 ألفاً. وتهدمت فيها قلاع كثيرة للمسلمين وهاجم الصليبيون تلك الحصون، كما اتخذ نور الدين زنكي وصلاح الدين جراء هذا الزلزال كوخاً خشبياً أقام فيه حتى وفاته بعده بعامين، وحث التجار وكبار القوم على الاحتذاء به، وهكذا فعل الكثيرون.
أما بعده بـ 32 عاماً سنة 1202م ضرب زلزال كبير كان مركزه بين دمشق وبيروت، وصلت موجاته إلى جنوب مصر، وراح ضحيته في نابلس وحدها 30 ألف شخص، تزامن ذلك مع الشدة الأيوبية من مجاعات، فمات في مصر والشام في عام واحد أكثر من 1.1 مليون شخص بالزلزال والمجاعة كليهما. أي إن مصر وقتها فقدت بين 25-30% من سكانها. وتبع هذا الزلزال موجات تسونامي في ساحل فلسطين والذي كان لا يزال يسيطر على بعضه الصليبيون.
أثر زلزلة القرن الثاني عشر
الزلازل أثرت في مسار الحرب، منها تأثر الصليبيين سلباً بشدة من تلك الزلازل المتعاقبة، وأضعفت وجودهم الهش في منطقة "قلب العالم الإسلامي"، فحصونهم ومدنهم تهدمت وقتل فيها الكثير، مما استهلك وقتاً وأموالاً لإعادة ترميمها، لذا عمدوا لقطع الطرق وقتها كي يوفروا دخلاً خصوصاً مع ضعف تجارتهم، كونهم محاصرين بمستودع مسلم صار يتحالف كل يوم مع نور الدين زنكي بفعل حروب التوحيد والزلازل نفسها.
أدى ذلك لضعف الصليبيين بسبب بُعد المسافة للخزان البشري الداعم لهذا الجيب الصليبي، أي كان هناك قصور في تعويض النقص العددي البشري بصورة أو بأخرى، وتكلفته العالية مقارنة بميزة للمسلمين حيث كانوا محاطين بخزان بشري مسلم، في مصر واليمن وبلاد العراق وما وراء النهر والمغرب الأقصى، مما مكنهم من استقدام جند وقوة عددية كبيرة في فترة صغيرة وبتكلفة أقل بكثير من نظرائهم الصليبيين، وهو ما كان حاسماً في تعزيز قوة نور الدين زنكي من ثم صلاح الدين في حرب الاسترداد.
الأمر الثاني يوضح بعضاً من ملابسات إعطاء صلاح الدين لمصر مكانة نسبية لكي تصبح قاعدة لتحرير بيت المقدس على حساب الشام، حيث كانت خطوة موفقة من الناحية الاستراتيجية، حيث يعتبر الوادي المصري أكثر استقراراً من الناحية التكتونية وأقل عرضة للزلازل المدمرة، وبالتالي يتمتع بوفرة عددية في السكان على حساب الشام، بالإضافة للوفرة في الثروة الزراعية والماء، حيث مكنت ثروة مصر نخبة الدولة الأيوبية من تمويل الحرب وتحمل أعبائها.
على مستوى آخر أدى الزلزال لحركة استبدال للنخب التي كانت تسيطر على مدن وقلاع وحصون الشام ومصر بما فيها الدولة الفاطمية، تلك العفن فشلت عن التصدي للتهديد الوجودي المتمثل في الحملات الصليبية، ولم يكن ليحدث ذلك لولا مشاركة الزلازل بشكل غير عاقل في تدميرهم وترك من بقي منهم ضعيفاً أمام قوى التوحيد الزنكية والأيوبية لمواجهة الصليبيين، وبفعل عاقل وغائي من النخبة الزنكية والأيوبية التي استفادت منه على أحسن الصور.
هذه صورة جلية للأثر الاجتماعي والسياسي للزلازل، وكيف يمكن أن تعزز من صعود نخبة جديدة، المتمثلة في تعزيز انفراد الترك والأكراد بالسيادة الكاملة على حساب العرب، وساهمت في إضعاف السابقة أي "الاستبدال". كما ساهمت على المستوى الدولي في إضعاف الصليبيين، إذ كانت في صالح حروب الاسترداد الإسلامية لاعباً "غير عاقل" في السياسة المحلية، وفي الصراع الدولي.