بعد أزيد من 30 سنة، عاش فيها أيمن الديراوي، أو أيمن بن هادية تونسي الروح والهوية، و مُشبث بثقافة البلد الذي كبر فيه وترعرع منذ الصغر، اكتشف بمحض الصدفة، أن أصوله تعود إلى دولة فلسطين، وأن والديه الحقيقيين قد استُشهدا بعد 3 أشهر فقط من ولادته.
رحلة بحث أيمن وراء جذوره وأصوله الحقيقية بدأت منذ سنة 2004، وبعد ما يقارب 10 سنين، وتمكنه من الوصول إلى أول خيط يربطه بعائلته. تسببت حرب غزة، التي بدأت بتاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، في قطع هذه الروابط، بعد استشهاد من كان على تواصل معهم.
من مجزرة مخيم صبرا وشاتيلا في بيروت إلى تونس
تبدأ قصة أيمن بن هادية، واسمه الحقيقي أيمن الديراوي، سنة 1982، عندما كان يبلغ من العمر 3 أشهر فقط، خلال أحداث مجزرة مخيم صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في مدينة بيروت بلبنان، عندما قامت القوات اللبنانية، مدعومة بقوات الاحتلال باقتحام المخيم لمدة 3 أيام، وقتل الآلاف أغلبهم فلسطينيون، من بينهم بعض اللبنانيين.
ومن أجل حماية ابنها الوحيد، قامت أم أيمن الحقيقية بتخبئة فلذة كبدها داخل قِدر ووضعت بداخله وثائق ثبوته كذلك، وذلك من أجل ضمان نجاته من المجزرة.
بعد إيجاد الطفل أيمن، تم تبنيه من طرف عائلة تونسية، وانتقلوا به للعيش في مدينة سوسة الساحلية، وقد كبر دون أن يعرف شيئاً عن أصوله الفلسطينية، أو أنه قد تم تبنيه عندما كان رضيعاً قادماً من مخيم اللجوء في لبنان.
2004.. سنة الحقيقة
كان أيمن بن هادية متعلقاً بوالدته التونسية بدرجة كبيرة، فقد كانت القلب الحنون الذي يعطف عليه ويوفر له الرعاية التي يحتاجها منذ الصغر.
لكنه فقد والدته سنة 2004، الشيء الذي جعله يعيش حزناً كبيراً، فقرر من نفسه التبرع ببعض ملابسها وأغراضها كنوع من الصدقة على روحها.
إلا أن خطوته هذه جعلته يتعرف على حقيقة صادمة لم تكن لتخطر على باله، بعد عثوره على وثائق ثبوتية رسمية في خزانتها، مخبأة داخل صندوق صغير، لشخص يحمل اسم أيمن الديراوي، مسجلة باسم منظمة التحرير الفلسطينية.
يقول أيمن، حسب تصريحه لصحيفة "ultras tunisia"، إنه توجه بشكل مباشر لوالده، وكله حيرة، غير قادر على ترتيب أفكاره وكلماته من أجل طرح سؤال منطقي، يساعده على فهم أصل ما عثر عليه من وثائق.
وفور رؤيته تلك الوثائق في يد ابنه، انهار والد أيمن بالبكاء، وشرح له قصته كاملة، التي بدأت من لبنان، وصولاً إلى تونس، فيما كان متمسكاً بأنه والده مهما كان، بالرغم من كونه ليس من صلبه فعلاً.
يقول أيمن في هذا الخصوص: "أمام دموع والدي عجزت ولم أستطع أن أبحث عن عائلتي الفلسطينية، لكني أخذت عهداً على نفسي أني سأفعل بعد ذلك إذا ما بقيت على قيد الحياة وتوفي والدي وهذا ما حدث فعلاً".
رحلة البحث.. من فيسبوك إلى الإعلام
بعد وفاة والده، شرع أيمن بن هادية رحلة البحث عن عائلته الحقيقية في فلسطين، وكانت أولى خطواته هي منصة فيسبوك، والسؤال عن عائلة الديراوي، والمكان الذي تعيش فيه.
كما أنه حاول التواصل مع السفارة الفلسطينية بتونس لمدها بالوثائق التي يملكها، التي تستطيع أن تكون خيطاً قادراً على تقريبه من أصوله، إلا أن المحاولات كلها باءت بالفشل.
وقد كانت الطريقة الوحيدة أمام أيمن هي التوجه إلى وسائل الإعلام وقص حكايته من خلاله، وهذا ما حصل سنة 2016، بعد أن قام بالحديث في إحدى القنوات اللبنانية، وكانت فرصته من أجل زيارة مخيم صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين.
وقال أيمن في حديثه لنفس الجريدة التونسية: "دخلت المخيّم بعد 30 عاماً من ولادتي فيه، أحسست أني أعرف المكان، وأني جزء منه، وشعرت أن كل تلك الوجوه تعرفني وأعرفها منذ زمن، كما أخذوني إلى المقبرة الجماعية أين دفن والديّ الشهداء، إلى اليوم لا أعرف كيف أصف ما أحسست به لأنه لا يوصف بل يُحس".
اتصال من محمود عباس.. أيمن فلسطيني الجنسية
بعد بث الحلقة، توصل أيمن الديراوي باتصال من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي أعلمه أنه يبحث في قضيته وفي كل التفاصيل التي تخصها، وأخبره أنه يمنحه الجنسية الفلسطينية وجواز السفر الفلسطيني.
وقد كان هذا الخبر سبباً في دخول الفرح والسعادة إلى قلب أيمن، الذي كان عاشقاً لفلسطين، ومتابعاً للقضية منذ الصغر، كجميع أبناء جيله، ولم يكن يعتقد يوماً أن أصوله تنحدر من هناك، أو أنه سيصبح فلسطينياً بشكل رسمي بعد سنوات عدة.
وقد كانت هذه المرحلة خطوة جديدة في رحلة بحثه، إذ اكتشف بعد ذلك أن والده ينحدر من قطاع غزة، وأن عائلته ما زالت تعيش هناك.
وقد تمكن بعد ذلك من التواصل معهم بعد سنوات من المحاولات، وهم عمته وعائلتها، التي أخبرته بأن والده كان من بين المقاومين، إذ إنه كان متزوجاً في غزة قبل أن يترك زوجته وابنه، ويتوجه إلى لبنان، حيث تزوّج مرة أخرى وأنجب طفلاً آخر، واستُشهد في مخيم صبرا وشاتيلا.
فرح أيمن بعد معرفته أن له أختاً كبرى تعيش في قطاع غزة، خصوصاً أنه كان يحلم دائماً بأن يكون له إخوة منذ أن كان صغيراً، إلا أن تواصله معها كان ممنوعاً، دون التأكد من صلة القرابة بينهما، وذلك حسب طبيعة المجتمع الفلسطيني المحافظ.
إلا أن أيمن الديراوي عاش حالة من الاحباط والعجز، لعدم تمكنه من القيام بتحليل الحمض النووي، وذلك لأن تونس تشترط إجراءه بعد حصوله على حكم قضائي يشرع ذلك، وهو الشيء الذي لا يمكن تحقيقه كتونسي، أو فلسطيني.
حرب غزة تقطع الرابط الوحيد بين أيمن وعائلته
حاول أيمن الديراوي جاهداً الوصول إلى حل من أجل التمكن من لقاء أخته، والتعرف عليها بشكل مباشر، إلا أن كل المحاولات كانت فاشلة، بعد أن طرق باب السفارة الفلسطينية، وراسل رئاسة الجمهورية التونسية ولم يتلقَّ أي رد.
لكن بعد 10 سنوات من المحاولات، التي قادته إلى أول طريق يقربه من أصوله وعائلته في فلسطين، عقب تواصله مع عمته، ومعرفته أن له أختاً من دمه، كانت حرب غزة، التي بدأت مع "طوفان الاقصى"، كانت سبباً في تفرقتهم من جديد.
وحسب لقاء مع قناة "الجزيرة" أطل فيه التونسي أيمن بن هادية، أو الفلسطيني أيمن الديراوي، أكد أن الأحداث الحالية التي يتابعها بشكل يومي كانت سبباً في استشهاد عمته وكل عائلتها، التي كان يتمنى لقاءها ومعانقتها، كونها الشخص الوحيد الذي يمكنه التواصل معه.
وهو اليوم في رحلة بحث جديدة عن بقية أفراد عائلته الآخرين، الذين علم أنهم يعيشون بدورهم في قطاع غزة، أملاً في أن يكونوا على قيد الحياة، وتنتهي الحرب ليتمكن من التعرف عليهم والتقرب من أصوله مرة أخرى، بعد قطع الاحتلال الخيط الوحيد الذي كان يربطه بها.