أبرزها سينما السامر في غزة : لم يكتفِ العدوان الغاشم الذي يشنُّه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 بارتكاب الجرائم البشعة ضدّ المدنيين..
ولم يقتصر على قصف المعالم الدينية والتاريخية، بل لحق تدميره الواجهات الثقافية والحضاريّة للمدينة،على غرار سينما السامر أقدم دور السينما في غزة،
افتُتحت زمن الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1944، وكانت إلهاماً للعديد من المخرجين والمبدعين لافتتاح قاعاتهم الخاصّة، بل إنّها شاهدة على السينما الفلسطينية التي تمثّل إحدى التجارب السينمائية القديمة في الوطن العربي والشرق الأوسط على حدّ سواء.
سينما السامر في غزة منذ الأربعينيات
يقدّر ظهور قاعات العرض في غزة إلى أربعينيات القرن الماضي، حيث أنشأ "رشاد الشوا" رئيس البلدية في ذلك الوقت "مؤسسة السامر"، ليتم تحويلها عام 1944 إلى "سينما السامر"، وفق ما أفاد به مدير دائرة الفنون والتراث والمعارض في الهيئة العامة للشباب والثقافة بغزة (حكومية)، عاطف عسقول، لشبكة الجزيرة الإخبارية.
يقول المخرج الفلسطيني خليل المزين في أحد لقاءاته مع الموقع الفلسطيني عرب 48: "استورد لها رشاد الشوا المعدات، وفصّل قماش ستائرها وشاشاتها في المجدل، وكان يشرف بنفسه على استيراد الأفلام لها من مصر، ومع أن فلسطين عرفت الأفلام السينمائية في القدس عام 1908، لم يشهد الوطن حراكاً كالذي كان في غزة".
تراجع سينما غزة مع بداية الانتفاضة الأولى
انعكست الأوضاع الأمنية الصعبة إثر الانتفاضة الأولى عام 1987 على دور السينما في القطاع، جراء التضييق الأمني ونظام منع التجول الصارم الذي كانت تفرضه قوات الاحتلال، حيث كان يبدأ من ساعات مبكرة من المساء.
وفضلاً عن الإضرابات والمظاهرات والاشتباكات وسقوط الشهداء، لم تكن الحالة النفسية والاجتماعية لسكان القطاع في تلك الفترة مناسبة لارتياد دور السينما، ومواكبة الأنشطة الثقافية والترفيهية بشكل عام.
أدّى ذلك إلى تحوّل معظم القاعات السينمائية إلى صالات للأفراح أو قاعات للمناسبات، وكثير منها أغلقت أبوابها.
السينما الفلسطينية في غزّة بعد النكبة
عام 1948 شرعت الأونروا في إنشاء بعض المشاريع الثقافية للاجئين، حيث كانت تقوم بعرض أفلام سينمائية في جميع المخيمات على مدار الأسبوع، كان المشاهدون يفترشون الأرض لمتابعة الأفلام، ومن ثم النقاش حول مواضيعها وآفاقها، ومثّلت السينما في تلك الفترة المتنفس الوحيد لأهالي القطاع.
في الخمسينيات
في خمسينيات القرن الماضي تبنّى القطاع افتتاح دور عرض متعددة: سينما النصر، و عامر، و الحريّة في خان يونس، و السلام في مدينة رفح، تعرض فيها أفلام أغلبها من إنتاجات مصرية، بالإضافة إلى الأفلام العربية والهندية والأجنبية المختلفة من العالم.
وتميزت دور السينما في ذلك العصر بالتنظيم المحكم، حيث كانت تفصل بين أماكن الرجال والنساء، إضافة لتميزها بتخصيص أماكن للعائلات تبعاً لما ذكره المؤرخ الفلسطيني سليم المبيض في تصريحه لصحيفة القدس العربي.
في مقابلة مع العربي الجديد يروي الخمسيني بسام أهليل كيف كان يقصد سينما النصر برفقة أصدقائه، فكانوا يتوجّهون من مخيّم النصيرات وسط القطاع حتى مدينة غزة، لمشاهدة الأفلام المعروضة. مضيفاً أنّه كان يحضر الأفلام المختلفة لـ"جاكي شان"، وعبد الحليم حافظ، إلى جانب الأفلام الرومانسية وأفلام الأكشن الهندية.
واستطرد: "كان سعر التذكرة يختلف حسب نوعية الفيلم، والمقعد الذي يتم حجزه، إلا أن المبلغ لم يكن يتجاوز في ذلك الوقت 20 شيكلاً (5.5 دولار تقريباً).
في السبعينيات
تم الحدّ من عمل دور عرض في غزّة في بداية هذه الحقبة، بسبب تضييقات الاحتلال المشدّدة على سينما المقاومة الفلسطينية، والأفلام التي تجسّد النضال الوطني، ومعاناة الشعب، ولم تعد الحركة الثقافية والسينمائية إلى القطاع سوى بعد استشهاد المقاوم الغزّاوي محمد الأسود الملقّب بجيفارا غزّة، على يدّ قوات الاحتلال عام 1973.
عاد الشباب الفلسطينيون بعد ذلك للعمل داخل مناطق 48 لتفتح السينما في غزة أبوابها وتستقبل روّادها من جديد، كما زاد عددها ليبلغ 10 دور عرض.
في الثمانينيات والتسعينيات
في 1981 تطوّر النشاط الدعوي للتيّارات الإسلامية المناهضة للحداثة والعلمانية في القطاع، وباتت الدعوة للهجوم على دور السينما صريحة وعلنية، ورغم فتح دور "النصر" و"الجلاء" سنة 1994 بإشراف مباشر من السلطة الفلسطينية، إلاّ أنّهما تعرّضتا للتخريب والحرق بعد عام واحد من افتتاحهما من قبل عناصر الحركات الإسلامية، بدعوى أنّ الأفلام الأجنبية المعروضة من قبلهما من المحرّمات ولا تعبّر عن معتقدات وعادات الشعب الفلسطيني.
ما بعد التسعينيات.. محاولات شحيحة لإحياء سينما غزة
ظلّت دور العرض منذ التسعينيات إلى اليوم يعاني من عدم الإستقرار وشحّ الإمكانيات، حيث "لم تكن هناك أية مبادرة (من القطاع الخاص) لافتتاح دور سينما"، كما جاء على لسان مدير عام الفنون بوزارة الثقافة بغزة.
من جهته يُرجع المخرج الفلسطيني أشرف المشهراوي في تقرير بعنوان "دور السينما في غزة التي مرت بعصر ذهبي يعشش على جدرانها العنكبوت"، لصحيفة القدس العربي، إغلاق دور السينما وعدم الاكتراث لوجودها في غزّة إلى "طبيعة الأحداث التي مرت على القطاع منذ الثمانينيات، والتي كان لها بالغ الأثر في إغلاق هذه الدور وعدم الاكتراث لوجودها من قبل العامّة.
ويُوضّح المشهراوي في التقرير ذاته: "هناك وعي كبير، وتعطش لدى كثير من الفئات بإحياء مسرحنا، لكن هناك عوائق اقتصادية، تفرضها طبيعة غزة، وما تعانيه من هم يومي"، وهي عقبات تتمثل، بحسبه، في مواجهة المستثمرين لمشكلة تعويض شراء الأفلام السينمائية وحقوق بثها بشكل قانوني.
أفلام لا تُعرض سوى في المناسبات
هذا وقد أدّى إغلاق دور السينما الذي استمرّ لفترات طويلة في القطاع إلى هجرة أغلب الكفاءات الفنيّة والمخرجين خارج فلسطين، فصارت الأفلام السينمائية المعروضة في أوقات نادرة جلّها في المناسبات تقتصر على بعض الأفلام القصيرة والوثائقية يغيب عنها التنافس والإبداع.
كما أنّه رغم سعي بعض المخرجين الفلسطينيين إلى القيام بمبادرات عرض سينمائية بجهود فردية؛ إلاّ أنّ إيراداتها لم تكن مجدية بالنسبة لهم.
عودة سينما السامر إلى العرض في غزّة قبل أن يقصفها الاحتلال
بعد إغلاق دام 30 عاماً، عادت سينما السامر بقطاع غزّة عام 2017 لاستقبال جمهورها لمشاهدة فيلم "10 سنين"، الذي يسرد حياة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال من زاوية إنسانية صرفة، وفق تقرير نشرته بي بي سي، حيث حضر قرابة 300 شخص من القطاع العرض الخاص للمخرج علاء العلول.
وقد عبّر سكّان غزّة الذين حضروا الفيلم عن توقهم للأفلام الفلسطينية، باعتبارها متنفسهم الوحيد في مواجهة التضييق المفروض عليهم من قبل المستعمر.