رغم مضي ما يقرب من 75 عاماً على بدء احتلال فلسطين لم يتقاعس الشباب الفلسطينيون يوماً عن المقاومة بكافة أشكالها، ليس فقط المقاومة المسلحة، وإنما أيضاً من خلال المقاومة السلمية التي تُعتبر الكتابة على الجدران أحد أشكالها.
كيف نشأت الكتابة على الجدران، وكيف أصبحت شكلاً من أشكال المقاومة لدى الشعب الفلسطيني والشعوب المضطهدة الأخرى؟
الكتابة على الجدران شكل من أشكال المقاومة
في عام 2002، عندما بدأت إسرائيل ببناء جدار الفصل العنصري بطول 708 كيلومترات للسيطرة على الأراضي الفلسطينية، كان هذا الجدار بمثابة لوحة قماشية كبيرة أو لوحة كرتونية، يستخدمها الشباب الفلسطينيون لتطوير الكتابة على الجدران.
في حين كان الغرض من بناء الجدار هو كبح وخنق مقاومتهم، حوّله الفلسطينيون إلى منصة تمكنوا فيها من التعبير عن التزامهم بالمقاومة الوطنية، والحرية، والعدالة، والحب، والشعر، وحتى للتعبير عن مخاوفهم وتطلعاتهم اليومية وآمالهم.
تاريخ الكتابة على الجدران
الكتابة على الجدران ليست حديثة العهد، وإنما تعود إلى زمن بعيد جداً وتحديداً إلى المصريين القدماء، الذين قدّسوا الكتابة بشكل كبير، وهو ما نراه على جدران معظم المعابد والمقابر.
ولذلك كان للمصريين الفضل في إيصال فكرة الكتابة على الجدران إلى الشعوب اللاحقة، وأيضاً لاختراع الكتابة التي سمّاها الإغريق بالأحرف "الهيروغليفية".
كما استخدم المصريون القدماء الألوان السوداء والحمراء في الكتابة على الجدران، ونشروا فيها القصص والروايات وحتى الوصايا، إذ يحتوي أحد الجدران في مصر على وصية كُتب فيها: "وسّع صدرك للكتابة، وأحبها حبك لأمك، فليس في الحياة ما هو أثمن منها".
فيما كَتَب على جدران مقبرة نفرتيتي زوجُها رمسيس الثاني: "ربة الفتنة والجمال وجميلة المحيا وسيدة الدلتا والصعيد".
ومن بين الأمثلة للكتابة السياسية القديمة على الجدران بالقصائد العربية الساخرة، ما كتبه يزيد بن المفرغ الحميري، وهو شاعر أموي، اشتهر بكتابة أشعاره السياسية على الجدران بين سجستان والبصرة لإيصالها إلى الناس.
بمرور الوقت تطورت الكتابة على الجدران، وأصبحت لدى بعض الشعوب شكلاً من المقاومة، واستخدمتها الشعوب المقهورة للتعبير عن رفض المستعمر، كما اعتبرت بمثابة أداة متاحة للضعفاء والمهمشين للتعبير عن مخاوفهم.
فالرسائل التي ترسلها الكتابة على الجدران يمكن أن تساعد في جلب آراء غير رسمية من المستوى الشعبي إلى المستوى الدولي.
وهو ما أسهمت به الكتابة على الجدران في حالات صراع متعددة، منذ الثورة الطلابية عام 1968 في باريس، إلى الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في الثمانينيات في مدينة نيويورك وحتى الثورة السورية في 2011.
فالكتابة على الجدران تحفّز الجمهور على التغيير، أو توحد السكان نحو هدف مشترك، أو تشكّل الوعي الشعبي، أو تُخبر الناس بالأحداث المهمة.
الكتابة على الجدران في فلسطين
الكتابة على الجدران ليست جديدةً على النضال الوطني الفلسطيني، فهي تُمارَس على نطاق واسع منذ الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، خاصةً بسبب الإجراءات الإسرائيلية الصارمة التي فُرضت ضد كافة أنواع التعبئة السياسية في صفوف الفلسطينيين.
وفي ظل غياب مواقع التواصل الاجتماعي في تلك الفترة، وعدم القدرة على الوصول إلى وسائل الإعلام، أتاحت الكتابة على الجدران وسيلةً للفلسطينيين لِتجاوُز الرقابة والتعبير عن الرسائل السياسية، وشجَّعت في بعض الأحيان على استمرار الانتفاضة وتكتيكاتها المتمثلة في العصيان المدني.
فنان الغرافيتي الفلسطيني حافظ عمر أكد لموقع Taylor & Francis البريطاني الأكاديمي، أن الكتابة على الجدران في الماضي كانت شكلاً من أشكال المقاومة، وليست فناً كما يعتقد البعض، إذ يذهب الشباب ليلاً وهم يرتدون ملابس سوداء، يخاطرون بحياتهم من أجل كتابة شيء ما دون أن يراهم جيش الاحتلال.
ويذكر أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يحظر الكتابة على الجدران، ويفرض عقوبات بالسجن لمن يلقى القبض عليهم وهم يمارسون الكتابة.
الجداريات في المكسيك
في الطرف الآخر من العالم، وتحديداً في المكسيك، كان للكتابة على الجدران دور كبير في إعادة توحيد البلاد في ظل حكومة ما بعد الثورة المكسيكية، من خلال ما يُطلق عليه "الجداريات المكسيكية".
ظهرت الجداريات المكسيكية في عشرينيات القرن الماضي بعد الثورة المكسيكية، بدأ الأمر كمحاولة من جانب الحكومة لتوحيد مواطنيها الذين كانوا يعيشون في دولة ممزقة ما بعد الثورة، وفقاً لما ذكرته منظمة Copyright Alliance الأمريكية.
خلال هذا الوقت سعت الحكومة المكسيكية إلى استعادة نفسها من خلال بناء إرث غني من القومية والثقافة من خلال الفن، ثم نمت هذه الحركة لإلهام أجيال من الفنانين لتحويل البنية التحتية إلى قماشة رسم.
مع تطور المجتمع المكسيكي في أعقاب الثورة، سعت الحكومة إلى تعزيز الأيديولوجيات السياسية والاجتماعية، من خلال تحديث تاريخها الغني باللوحات الجدارية.
لثُبت الجداريات أنها وسيلة فعالة للمكسيك لتعزيز المعرّفات الثقافية، وكذلك التواصل مع المواطنين الذين لا يستطيعون القراءة أو الكتابة.
أُنشئت العديد من جداريات المباني العامة التي حملت رسائل قومية واجتماعية وسياسية منذ عشرينيات وحتى سبعينيات القرن العشرين، فبدأت بذلك تقليداً استمر حتى اليوم في المكسيك وفي أجزاء أخرى من الأمريكتين، بما في ذلك الولايات المتحدة، حيث ألهمت هذه الجداريات حركة شيكانو الفنية.
ولا ننسى أيضاً أنه لدى المكسيك تقليد في رسم الجداريات، بدءاً من حضارة الأولمك في الفترة ما قبل الإسبانية وحتى الفترة الاستعمارية، وقد رُسمت هذه الجداريات غالباً للتبشير وتعزيز العقيدة المسيحية.
ثورة مايو الطلابية في باريس 1968
كان الحدث السياسي الرئيسي لعام 1968 الذي وصل فيه الفن والسياسة إلى درجة الحمى في العالم الغربي هو ثورة الطلاب والإضراب العام في مايو/أيار 1968 في باريس.
بداية انطلقت مسيرات طلابية تندد بالحرب الأمريكية على فيتنام، قوبلت بعنف شديد من الشرطة، فاشتعل الموقف وزادت الاحتجاجات صلابةً لتعمّ معظم الجامعات والمدارس في البلاد، ثم انضمَّ العمال إلى التمرد، وقام ما يقرب من 11 مليون عامل بالإضراب الأقوى في تاريخ فرنسا، وبدا أن باريس ستسقط في حرب أهلية لا محالة، وفرّ الرئيس الفرنسي شارل ديغول إلى ألمانيا سراً.
لم تقتصر هذه الانتفاضة على فرنسا، بل امتدَّ صداها لأنحاء كثيرة من العالم، كما اشتعل الموقف في فيتنام، وكانت المطالب الداخلية الملحة آنذاك من أهم الأسباب التي أشعلت الثورة الثقافية الصينية التي قادها الزعيم الصيني ماوتسي تونغ ضد فلول البرجوازية، داعياً الشباب للثورة عليهم واجتثاثهم، وكان ماو ذائع الصيت في فرنسا، وإلهام الشباب حول العالم للتحرك ضد الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة على السواء، كذلك لم يكن قد مر وقت طويل على اغتيال أمريكا للمناضل الكوبي تشي جيفارا.
وبينما كان الغاز المسيل للدموع يملأ شوارع باريس، احتل طلاب مدرسة الفنون الجميلة استوديوهات الطباعة الخاصة بها، وبدأوا في إنتاج ما يعتبر العنصر الأكثر ديمومة في الحركة، وهي الصور والشعارات التي طبعت على الورق، ومن ثم إلى جدران الشوارع وأبواب المحال التجارية.
في أحد الرسومات تظهر امرأة ترمي حاجزاً بالحجر بينما تقول الكلمات: "La Beauté est dans la rue" (الجمال في الشارع).
أما في أحد أشهر ملصقات الحركة فترتفع قبضة مرفوعة من الطوب بعنوان "La Lutte continue"، بما معناه (يستمر الكفاح).
كما كتبوا فوق مدخل مسرح أوديون دو أوروبا في باريس عبارة: "عندما تصبح الجمعية الوطنية مسرحاً برجوازياً، يجب أن تتحول كل المسارح البرجوازية إلى مجالس وطنية"، وفقاً لما ذكره موقع Bureau of Public Secrets الأمريكي.
الكتابة على الجدران في نيويورك
لم تكن مدينة نيويورك في سبعينيات القرن الماضي مثل مدينة نيويورك الحالية، فقد كانت المدينة في دوامة هبوطية وتعاني من الجريمة والفقر، لأن الحكومة كانت فقيرةً وتفتقر إلى الأموال اللازمة لإدارة المدينة بشكل صحيح.
هذه الأزمة الحضرية دفعت الناس في نيويورك إلى الكتابة على الجدران للاحتجاج على هذه الأزمة، وتذكير الأشخاص الذين ينتهكون سلطتهم بأوجه قصورهم.
وسرعان ما أصبحت الشوارع منبراً لأي شخص يرغب في التعبير والتحدث عن همومه وآرائه.
هذا الأمر لم يعجب الحكومة، فأصبحت الكتابة على الجدران كبش فداء للأزمة الحضرية في مدينة نيويورك.
هاجم سياسيو المدينة الكتابة على الجدران على أمل القضاء على الاضطرابات الاقتصادية والسياسية والعنصرية والاجتماعية في المدينة، كما أدى ذلك إلى اتخاذ حكومة المدينة إجراءات ضد الكتابة على الجدران، وأنشأت تحالفاً بينها وبين وسائل الإعلام.
في مايو/أيار 1972، نشرت صحيفة نيويورك تايمز افتتاحية تشيد بالإعلان العلني لرئيس مجلس المدينة سانفورد جاريليك عن الحرب ضد الكتابة على الجدران، كشكل من أشكال التلوث البصري.
ثم بعد فترة وجيزة، اقترح العمدة ليندساي تشريعاته لمكافحة الكتابة على الجدران، التي تحدد الكتابة على الجدران كجريمة تخضع لعقوبة قانونية.
وقد أقر المجلس هذا القانون في نهاية المطاف، في 11 أكتوبر/تشرين الأول 1972.
وبعد إقرار القانون أصبح يشار إلى رسامي "الغرافيتي" على أنهم مخربون وبلطجية ومجرمون في وسائل الإعلام، كما قامت الحكومة بشيطنة الكتابة على الجدران، ما أدى إلى تحول المنظور العام ضد الفنانين، ومهد الطريق لاتخاذ إجراءات قانونية ضد الكتابة على الجدران.
في سوريا.. كتابة أطفال على الجدران أشعلت ثورةً كاملة
لعبت الكتابة على الجدران دوراً مهماً في مشهد فن الشارع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خاصةً بعد أحداث الربيع العربي.
في سوريا عانى الشعب هناك لسنوات طويلة من الظلم والقهر، منذ تسلُّم حزب البعث الاشتراكي سدةَ الحكم، من خلال حافظ الأسد ونجله الرئيس السوري الحالي بشار الأسد.
ورغم كل هذا الظلم الذي تعرض له الشعب السوري منذ نحو 4 عقود، فإن معظم الناس يرون أن الكتابة على الجدران كانت السبب الرئيسي في إشعال شرارة الثورة السورية في عام 2011.
في تاريخ الـ16 من فبراير/شباط 2011، كُتبت بعض الشعارات على جدار مدرسة "بنين درعا البلد" في حي الأربعين ومدرسة معاوية ومدرسة الجمارك في مدينة درعا جنوب سوريا، تحاكي ثورات الربيع العربي المطالبة بإسقاط أنظمة الحكم.
قام مدير مدرسة البنين باستدعاء الشرطة من مخفر العباسية، وعندما وصلوا شاهدوا الكتابات التالية: "اجاك الدور يا دكتور"، "يسقط الرئيس بشار الأسد".
لتقوم المخابرات العسكرية السورية باعتقال بعض من طلاب المدرسة الذين لا تتجاوز أعمارهم 13 عاماً، وقاموا بتعذيبهم واقتلاع أظافرهم، الأمر الذي أدى لاندلاع شرارة الثورة السورية يوم 18 فبراير/شباط 2011.
في السنوات الأولى من الثورة السورية انتشرت ظاهرة في مناطق سيطرة النظام السوري، أطلق عليها "الرجل البخاخ"، وهو الشخص الذي يقوم ليلاً بالكتابة على الجدران عبارات مناوئة للحكومة، من أجل تحفيز الناس على الاستمرار بالتظاهر، متحدياً النظام الذي لم يكن يتساهل أبداً مع هذا الموضوع.
ومن بين هؤلاء الرجل البخاخ الدمشقي، خالد الخانجي، الذي اعتُقل بسبب العبارات التي كتبها على جدران في حيه.
أما الشاب محمد نور زهرة (23 عاماً) فقد قُتل برصاص قناص عام 2012، بعد أن دأب على كتابة الشعارات المناهضة للنظام في دمشق، وفي حيه كفرسوسة خاصةً، ولم يكن هو الوحيد الذي دفع حياته ثمناً للكلمة وفقاً لما ذكرته صحيفة العربي الجديد.
الرسم على الجدران يُدخل إلى السجن في تونس
بعد ثورة الحرية والكرامة 2010 في تونس، باتت ظاهرة الكتابة والرسم على الجدران شكلاً أساسياً من أشكال التعبير عن المشاكل الاجتماعية والسياسية في البلاد.
رسوم الغرافيتي التي أصبحت منتشرة في الأحياء الشعبية والأماكن العمومية تحمل رسائل الغضب والسخرية والفكاهة، وفي بعض الأحيان تتضمن أبيات شعر خالدة، أو رسوماً طريفة، أو رسائل مشفرة تشد انتباه المارة.
ووفقاً لما ذكره موقع "عربي 21"، فإن الرسم على الجدران خلال الثورة التونسية سمح للناس بتحرير طاقتهم والتعبير عن مواقفهم في وجه الديكتاتورية، ثم لاحقاً في وجه التعصب والإرهاب.
ما سمح بظهور مجموعات من الشباب الذين يجدون في الجدران مجالاً للتعبير عن رفضهم للظلم والفساد والبطالة، وتبني القضايا الاجتماعية والثقافية لمجتمعاتهم.
رغم أن الكتابة على الجدران وغيرها شكل من أشكال التعبير عن الرأي، وهي وسيلة مشروعة لممارسة الحق في حرية التعبير، فقد تم اعتقال العديد من الرسامين في البلاد، آخرهم 3 ناشطين في عام 2023.
أخيراً ورغم أن جدار الفصل العنصري الإسرائيلي كان يهدف إلى السيطرة على الفلسطينيين وتقييد حركتهم، فإنه في الواقع حفزهم على البحث عن أدوات جديدة للمقاومة لمواجهة الهيمنة والقهر والقمع، ومن خلال استخدام الكتابة على الجدران والأعمال الفنية حوّل الفلسطينيون المساحة الضخمة التي يوفرها الجدار إلى مقاومة يومية.
قد يهمك أيضاً.. نفذتها قوات شارون الخاصة بهدف تدميرها وتهجير سكانها.. ماذا تعرف عن مذبحة قبية 1953؟