البقاء على قيد الحياة بعد نهاية الحروب وتوقف عمليات القصف، لا تعني توقف المعاناة والألم، فهناك من يعيش بعاهات جسدية مستديمة، وآخرون يصبحون مضطرين للعيش في مخيمات للاجئين دون عائلات أو أقارب، بعد فقدانهم في الحرب.
فيما هناك من تتحول حياته إلى جحيم حقيقي، عند تعرضه لحالة نفسية جد صعبة تسمى "صدمة القصف"، والتي تجعله يعيش حالة من الرعب المستمر، مع فقدان بعض الحواس، وفقدان القدرة على النوم بشكل كامل.
هذه الحالة النفسية قد تصيب الكبار كما الصغار، فيما يمكن أن يكون علاجها صعباً جداً، خصوصاً بالنسبة للأشخاص الذين كانوا في أماكن معرضة مباشرة للقصف بمختلف أنواعه.
صدمة القصف.. البداية من الحرب العالمية الأولى
خلال الحرب العالمية الأولى، تعرض مجموعة من جنود خط المواجهة البريطانيون، وصل عددهم إلى 80 جندياً، لحالات من الصدمة القوية، بعدما كانوا في مواجهة مع قذائف المدافع من العيار الثقيل، التي كانت تعتبر الأكثر تدميراً خلال تلك الفترة.
وكانت الأعراض التي تظهر على هذه الجنود تتمحور في طنين الأذن، وفقدان السمع، والصداع المستمر، والرعاش، وتشنجات في عضلات الوجه، وحركات هستيرية لا يمكن التحكم فيها، وعدم القدرة على احتمال الضوء، وعدم التمكن من النوم.
في البداية كان يتم وصف كل من يعاني هذه الأعراض على أنه جبان أو يتصنع المرض، من أجل التملص من واجباته تجاه الوطن وعدم المشاركة في الحروب.
إلأ أنه تم أخذ الموضوع على محمل الجد، بعد أن أشار الطبيب وعالم النفس البريطاني تشارلز صمويل مايرز إلى أن هذه الحالة عبارة عن مرض حقيقي ناتج عن الصدمات التي تسببها القذائف والقنابل خلال الحرب.
هذا ما توصّل إليه علم النفس
بحلول شتاء 1914-1915، أصبحت "صدمة القصف" تشكل مشكلة طبية وعسكرية كبيرة، وذلك لأن هذا المرض لم يؤثر فقط على الأعداد المتزايدة من جنود الخطوط الأمامية الذين يخدمون في الحرب العالمية الأولى فحسب، وإنما كذلك على أطباء الجيش البريطاني الذين كانوا يحاولون فهم هذا الاضطراب وعلاجه.
وقد كان الجنود هم من قام بإطلاق مصطلح صدمة القصف على المرض حتى قبل الإعلان عنه بشكل رسمي، وذلك بعد عدم قدرتهم على أداء وظيفتهم، متأثرين بالمضاعفات القوية، من هلوسات، وكوابيس، وفقدان بعض الحواس، منها السمع، والبصر، الناتجة عن قوة القصف.
ولفهم هذا المرض الغريب الذي أصاب الجنود بشكل أفضل، قام الجيش البريطاني بتعيين الطبيب وعالم النفس تشارلز صمويل مايرز لتقديم آراء حول حالات صدمة القصف، وجمع البيانات كاملة من أجل الوصول لعلاج هذه المشكلة المتزايدة.
وحسب البيانات الأولى، توصل مايرز إلى أن ما تعرض له الجنود عبارة عن مجموعة من التشوهات الإدراكية، مثل فقدان أو ضعف السمع والبصر والإحساس، إلى جانب أعراض جسدية شائعة أخرى، مثل الرعاش وفقدان التوازن والصداع والتعب.
وفي خلاصة دراسته للحالات، توصل إلى أن هذه كانت إصابات نفسية وليست جسدية، واعتقد أن الأعراض كانت مظاهر علنية للصدمة المكبوتة جراء الأحداث التي كان يعيشها الجنود أثناء الحرب.
طرق علاج صدمة القصف المحتملة
توصّل تشارلز صمويل مايرز، جنباً إلى جنب مع ويليام ماكدوغال، وهو عالم نفس، إلى بعض الطرق النفسية التي تساعد في علاج الأشخاص الذين يعانون من صدمة القصف بعد الحروب.
إذ تمت الإشارة إلى أن إعادة التكامل العاطفي والمعرفي، والتي تتم من خلال محاولة فصل الشخص المصاب بالصدمة عن التجربة المؤلمة، سواء من خلال الأماكن، أم الأحداث، أم الصور.
فيما يمكن اعتماد طريقة أخرى، والتي هي محاولة إحياء الذاكرة ودمجها في الوعي، ثم محاولة معالجتها، من خلال عدة جلسات نفسية.
الآثار الجانبية بعد التعرض لصدمة القصف
على الرغم من فهم الحالة طبياً، والتوصل إلى طرق علاج نفسية، إلا أنه لا يعتبر كل من يعاني من صدمة القصف قادراً على تلقي العلاج والعودة إلى حياته الطبيعية كما لو أن شيئاً لم يكن.
فبعد الحرب العالمية الأولى، تم إخراج العديد من المصابين بصدمة القصف من المستشفيات في عدة دول وهم مصابون بإعاقات ذهنية دائمة، الشيء الذي منعهم من العودة إلى حياتهم الطبيعية.
وهذا ما يعيشه الكثيرون من الأطفال وغيرهم من المدنيين الذين يعيشون تحت القصف الإسرائيلي في فلسطين، إذ إنهم يتحولون إلى أشخاص غير قادرين على السيطرة على أنفسهم، أو النوم، أو حتى السمع والبصر، مع فقدان للذاكرة في بعض الحالات، بسبب القصف المتواصل.