قبل نحو 5 سنوات، لم يُدرك العالم أن بريطانيا كان لها دور أساسي بانقلاب 1953 في إيران، الذي أطاح برئيس الوزراء محمد مصدق وأعاد الشاه محمد رضا بهلوي إلى السلطة. كان يُعتقد أن وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) هي التي خططت، وسهّلت، وشاركت بالانقلاب.
لكن وخلال إعداد فيلم وثائقي عن انقلاب إيران -عُرض عام 2020، وسيُعرض في دور السينما شتاء 2023- تمّ اكتشاف مقابلة كانت أُجريت عام 1985 مع نورمان درابيشاير، وهو ضابط في جهاز الاستخبارات البريطانية (MI6)، كشف خلالها عن دور بريطانيا في الانقلاب؛ رغم أنها لم تعترف بعد رسمياً بذلك.
نُشرت هذه المعلومات للمرة الأولى عبر صحيفة The Guardian البريطانية عام 2020، التي كشفت عن الرواية الحقيقية خلف انقلاب 1953، وكيف أن الاستخبارات البريطانية عملت لسنوات على إقناع الولايات المتحدة بالمشاركة فيه.
حقيقة انقلاب 1953 في إيران
تولّى محمد مصدق رئاسة الوزراء في إيران عام 1951، ثم أصدر قراراً بتأميم شركة النفط الأنجلو-إيرانية، قبل أن يطرد الدبلوماسيين البريطانيين في العام التالي. هذا باختصار ما دفع الحكومة البريطانية إلى التخطيط للإطاحة به، والتخطيط لانقلاب 1953.
كُلّف نورمان داربيشاير ، ومساعده، بوضع خطةٍ للإطاحة برئيس الوزراء الإيراني. وقد أطلقت الاستخبارات البريطانية عليها اسم "عملية التمهيد". لاحقاً، عندما انضمّت الولايات المتحدة إلى العملية في ربيع عام 1953 -بعد انتخاب أيزنهاور رئيساً- أُعيد تسمية العملية، فصارت "عملية أجاكس" (TPAJAX).
بدأ تنفيذ خطة الانقلاب في 15 أغسطس/آب 1953، بمشاركة شاه إيران وبعض أفراد الجيش، لكن الأمور انحرفت عن مسارها. لم ينجح بعض الأفراد في التحرّك داخل الجيش، فأُصيب الشاه بالذعر وهرب على متن طائرة صغيرة إلى بغداد.
ومع إظهار واشنطن استعدادها للتخلّي عن الخطة، رفض نورمان داربيشاير الاستسلام وأراد الاستمرار في انقلاب 1953. كان يبلغ من العمر 28 عاماً فقط، وكان يراقب الأحداث من قاعدة سرية في قبرص.
تواصل مع عملائه في الداخل الإيراني ليغمروا شوارع طهران بـمرتزقة، عملهم الوحيد الاشتباك مع أنصار محمد مصدق وحلفائه في حزب "توده". وبالفعل، نجح في إثارة الاحتجاجات في الشوارع من خلال عملاء مأجورين طوال فترة انقلاب 1953.
كان هذا المشهد الفوضوي كافياً لإقناع ضباط الجيش، غير المنحازين إلى مصدق، بالانضمام إلى صفّ الشاه؛ ما أدَّى في نهاية انقلاب 1953 إلى تحوّل الزخم لصالح الشاه.
من شبه المؤكد أن تجنيد الشاب نورمان داربيشاير، من أجل العمل لصالح جهاز الاستخبارات البريطاني كان على يد جاسوسٍ بريطاني كان زميله في السكن بطهران، ويُدعى روبن زاينر.
أطلعه زاينر على شبكة علاقاته خلال انقلاب 1953، من ضمنها الشاه محمد رضا بهلوي -الذي كان يكبر داربيشاير بـ5 سنوات فقط- و3 أشقاء (سيف الله، وأسد الله، وقدرة الله رشيديان) وهم رجال أعمال إيرانيين موالين لإنكلترا.
تضمنت إحدى مهام داربيشاير في انقلاب 1953 في طهران توصيل الأموال إلى العملاء، كان يضعها داخل علب البسكويت. ووفقاً لداربيشاير، فإن مبالغ طائلة كانت تُنفق في سبيل تجنيد العملاء، "أعتقد أنه أنفق أكثر من مليون ونصف مليون جنيه إسترليني".
لكن ورغم حجم الأحداث التي تسبّب بها، لم يُعرف سوى القليل جداً عن نورمان داربيشاير، الذي خطط لانقلاب 1953 في إيران وأدى دوراً فعالاً في نجاحه، حتى الثورة الإسلامية عام 1979.
قدّم داربيشاير روايته للأحداث في مقابلةٍ غير رسمية مع صانعي فيلم End Of Empire الوثائقي، الذي أعدّه "تلفزيون غرناطة" عام 1985. رفض الظهور أمام الكاميرا، لذلك لم يتم استخدام المقابلة في البرنامج.
نُسي النص إلى أن أُعيد اكتشافه أثناء إعداد فيلم وثائقي جديد بعنوان Coup 53، صدر عام 2020 في الذكرى الـ67 للانقلاب، وسيُعرض في السينما قريباً عام 2023. لعب الممثل رالف فينيس دور داربيشاير، الذي توفي عام 1993.
وقال تاغي أميراني، مخرج الفيلم: "رغم أنه كان سراً مكشوفاً لعقود، فإن حكومة المملكة المتحدة لم تعترف رسمياً بدورها الأساسي في انقلاب 1953. العثور على نسخة داربيشاير يشبه العثور على مسدس الدخان. إنه اكتشاف تاريخي".
نُشر النص المكتوب على الآلة الكاتبة صباح يوم الإثنين، 1 يناير/كانون الثاني 1953، من قِبل أرشيف الأمن القومي بجامعة جورج واشنطن في الولايات المتحدة.
ووفقاً لداربيشاير، فإن السبب الرئيسي وراء رغبة جهاز MI6 في التخلص من مصدق هو أن جواسيس بريطانيا اعتقدوا أن حكومته، رغم احتوائها على عضو واحد فقط من حزب "توده" الشيوعي، سيطغى عليها النفوذ السوفييتي في نهاية المطاف.
فمن هو نورمان داربيشاير؟
أُسندت إلى نورمان داربيشاير مسؤولية "عملية أجاكس"، من قِبل جهاز الاستخبارات البريطاني، رغم صغر سنه، لأنه كان يتقن اللغة الفارسية بطلاقة بعدما أمضى ما يقرب من 10 سنوات في إيران.
وفقاً لمقابلات أجريت مع عائلته وأصدقائه، نشأ نورمان داربيشاير في أسرة متواضعة بشمال إنجلترا. تميّز بالقدرة على التأقلم سريعاً وتكوين صداقات وبناء شبكة علاقات في أي مكان بالعالم، فبدا كما لو أنه ترعرع في بيت جاسوس بريطاني من الطراز الرفيع.
كان داربيشاير ابن بائع خضار من ويغان، وقد انضمّ إلى الجيش بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، فجنَّدته القوات الجوية الخاصة (SAS).
تلقى تدريبه في إسكتلندا وأُرسل عام 1943 إلى إيران، التي كانت محتلة من قبل البريطانيين والسوفييت؛ لإبعاد الألمان عن حقول النفط وإبقاء خطوط الإمداد مفتوحة على الجبهة الشرقية.
في طهران بدأ نورمان داربيشاير ببناء شبكة علاقات وطيدة، وتعزيز إلمامه باللغة الفارسية، خلال السنوات الـ3 والنصف الأولى من خدمته فيها. وقد انخرط مع الدوائر الفارسية بطريقة لم يفعلها أعضاء السفارة الآخرون.
في لقائها مع وثائقي Coup 53، تقول آن ليهي، الابنة الكبرى لداربيشاير: "عاش حياة مزدوجة غريبة. كان أباً رائعاً منخرطاً مع عائلته، ويستمتع بوقته، ومرحاً للغاية".
وأضافت: "تمتع بقدرات لغوية كبيرة. كان يتحدث اللغة الفرنسية والفارسية بطلاقة، ويجيد التحدث بالألمانية والعربية. برزت أيضاً قدرته على تغيير لهجته. رغم أنه وُلد في أقصى الشمال، لم يظهر في لهجته قط أي شيء يميز محل ميلاده ونشأته".
عندما تولى داربيشاير إدارة جهاز الاستخبارات البريطاني في طهران بستينيات القرن الماضي، كانت زوجته مانون وعائلتها يعيشون في حي "نياوران" الراقي، بعيداً عن مباني السفارة. عاش مع عائلته حياة مريحة للغاية في طهران بعيداً عن جميع الدبلوماسيين الآخرين.
في طهران، كان يتحرك متخفياً. يستقل سيارة صغيرة لا تحمل لوحات دبلوماسية، ومن دون اصطحاب سائق. لكن ثمة لحظة أدرك فيها أبناؤه أن والدهم ليس دبلوماسياً عادياً. بالنسبة لنيكولاس، الابن الثالث لداربيشاير، جاءت هذه اللحظة في أثناء فترة وجود العائلة ببيروت.
قال نيكولاس في مقابلته مع فيلم Coup 53: "فتحتُ الدرج، ووجدتُ فيه ما لا يقل عن 4 جوازات سفر تحمل جميعها صورة والدي، وكل واحد باسمٍ مختلف".
نهاية مأساوية
بعد نجاح انقلاب 1953 في إيران، أصبح نورمان داربيشاير الفتى الذهبي لدى جهاز الاستخبارات البريطاني، وظلّ يمضى بخطى ثابتة نحو الصدارة على مدار 10 سنوات لاحقة.
لكن حياته العائلية بدأت تنهار في نوفمبر/تشرين الثاني 1964، عندما اصطحب أحد ضباط الاستخبارات القادمين من لندن لتفقّد بعض مراكز التنصت الإلكترونية، بالقرب من الحدود السوفييتية.
أحضر داربيشاير زوجته معه، في هذه الرحلة عبر جبال ألبرز، وصولاً إلى بحر قزوين. لكن السيارة انزلقت من المسار الجبلي الضيق في طريق عودتهم، ما أسفر عن مقتل زوجته والزائر البريطاني.
نجا داربيشاير من الحادث من دون إصابته بأي أذى يُذكر، لكنه كاد يموت بعد 13 شهراً، بسبب إصابته بـ"نزف تحت العنكبوتية"، وهو نوع من السكتات الدماغية.
بعد أقلّ من عام، بدأ داربيشاير بمواعدة امرأة شابة تعمل في قسم الاستخبارات بالسفارة البريطانية تُدعى فرجينيا فيل، وتزوجا في أبريل/نيسان 1966 خلال حفل زفاف أقيم داخل السفارة البريطانية في بيروت، على نفقة جهاز الاستخبارات البريطاني.
وجدت الزوجة الجديدة -البالغة من العمر 22 عاماً- نفسها فجأة مسؤولة عن رعاية 6 أطفال، إضافة إلى طفلتين أخريين، أنجبتهما من داربيشاير. ازداد سلوك داربيشاير عشوائية واضطراباً بمرور الوقت، وبات يفرط في شرب الخمر.
قال بيتر، ثاني أكبر أبناء داربيشاير: "الحادث وإصابته بنزيف الدماغ كانا بمثابة نقطة تحول في حياة والدي. لم يعد الشخص نفسه. بات ذلك واضحاً جداً بالنسبة لنا".
انفصل الزوجان بعد فترة وجيزة من عودة العائلة إلى بريطانيا عام 1975، وانهارت المسيرة المهنية لداربيشاير على مدار السنوات التالية. ومع ذلك، لم يفقد طموحاته للوصول إلى أعلى المناصب، لكن سمعته كمدمن كحول غريب الأطوار وقفت حائلاً أمام تحقيق ذلك.
توفي نورمان داربيشاير في يونيو/حزيران 1993، جراء نوبة قلبية، بينما كان يجز العشب أمام منزله. كانت مراسم دفنه إحدى المناسبات النادرة التي جمعت أبناءه الثمانية معاً، إضافة إلى بعض الأصدقاء، ووسط غيابٍ واضح لزملائه في جهاز الاستخبارات MI6.
تعتقد فيرجينيا فيل أن ما كان يطارد زوجها السابق نورمان داربيشاير ليس شعوره بالأسف حيال التخطيط لانقلاب 1953 في إيران، بل شعوره بالمرارة من أنه انتصر رغم كل الصعاب ولا أحد يعلم شيئاً عن ذلك؛ "كان يشعر دائماً بأنه حُذف من كتب التاريخ".