"اتبع شغفك" نصيحة نسمعها كثيراً من "المؤثرين" على مواقع التواصل الاجتماعي، ونقرأها كذلك في كتب التنمية البشرية، لكن إلى أي مدى تعتبر تلك النصيحة فعالة، وهل ستقودك حقاً إلى النجاح والمال والشهرة كما يدّعون؟ خبراء في علم النفس والاجتماع، يخبروننا بأن "الشغف" مع الأسف لن يحقق لنا بالضرورة تلك الغايات.
الشغف قائم على "مبدأ العاطفة"
قام عالم اجتماع يدرس ثقافة القوى العاملة وعدم المساواة، بإجراء مقابلات مع طلاب جامعيين وعاملين محترفين؛ لمعرفة ما يعنيه حقاً "اتباع الشغف" و"السعي وراء الأحلام".
وبعد فحص دراسات استقصائية، وجد أن معظم المشاركين يقدرون ما سماه "مبدأ العاطفة" عند اتخاذ قرارات تتعلق بحياتهم المهنية، بمعنى أنهم يفضلون "اتباع شغفهم" والسعي وراء أحلامهم عندما يتعلق الأمر بمناقشة مستقبلهم المهني.
وكشفت الدراسة أن مؤيدي مبدأ العاطفة وجدوا ذلك مقنعاً، لأنهم يعتقدون أن اتباع الشغف يمكن أن يوفر للشخص الدافع الضروري للعمل الجاد، وبالتالي سيساعده على تحقيق الإنجاز.
لكن كشفت الدراسة أيضاً، أن النتائج العملية تقول إن الشغف لا يؤدي بالضرورة إلى الإنجاز كما يعتقد المدافعون عنه، ولكنه أحد أقوى العوامل التي ترسخ ثقافة العمل الزائد.
كذلك، فإن تعزيز السعي وراء الشغف يساعد في إدامة عدم المساواة الاجتماعية؛ نظراً إلى حقيقة أنه ليس لدى الجميع الموارد الاقتصادية نفسها التي تسمح لهم بمتابعة شغفهم بسهولة.
فيما يلي، خمسة عيوب رئيسية لمبدأ العاطفة القائم على اتباع الشغف:
1. يعزز عدم المساواة الاجتماعية
على الرغم من أن الجميع يريدون اتباع شغفهم، فإن الجميع لا يملكون الموارد اللازمة لتحويل الشغف إلى وظيفة مستقرة وذات أجر جيد، ومن ثم فإن انتشار ثقافة الشغف يساهم في تعزيز عدم المساواة الاجتماعية.
على سبيل المثال يستطيع أبناء العائلات الثرية تفريغ أنفسهم لاتباع شغفهم في الحياة دون القلق حول لقمة عيشهم أو الحفاظ على مستوى معين من الرفاهية، كما يستطيعون رفض الوظائف التي لا تناسب اهتماماتهم في انتظار وظيفة "أحلامهم" التي يستطيعون أن يكرسوا فيها شغفهم، لكن هذه الخيارات غير متاحة على الإطلاق لدى أبناء العائلات المتوسطة الدخل أو الفقيرة.
وقد كشفت الدراسات الاستقصائية أن خريجي الجامعات من الطبقة العاملة، بغض النظر عن مجالهم المهني، أكثر عرضة من أقرانهم الأكثر ثراءً لأن ينتهي بهم الأمر في وظائف منخفضة الأجر عندما يسعون وراء شغفهم.
وبالتالي ومع الأخذ بالاعتبار أن الحياة لا تحمل فرصاً متكافئة للجميع، تساعد الكليات والجامعات وأماكن العمل والمستشارون المهنيون الذين يروجون لمسار "اتبع شغفك" في إدامة عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية بين الباحثين عن العمل.
وبالتالي، فإن أولئك الذين يروجون لمسار "اتبع شغفك" للجميع قد يتجاهلون حقيقة أنه ليس كل شخص قادراً على تحقيق النجاح بالقدر نفسه مع اتباع هذه النصيحة.
2. هوية الباحث عن الشغف تحت رحمة الاقتصاد العالمي
كشفت الدراسة أيضاً، أن مؤيدي الشغف يرون أن السعي وراءه طريقة جيدة لاتخاذ قرار بشأن الحياة المهنية، ليس فقط لأن العمل بشغف قد يؤدي إلى وظيفة جيدة، ولكن أيضاً لأنه يُعتقد أنه يؤدي إلى حياة جيدة أيضاً. لتحقيق ذلك، يستثمر الباحثون عن الشغف كثيراً من إحساسهم بالهوية في عملهم.
ومع ذلك، فإن القوى العاملة ليست منظمة حول هدف رعاية إحساسنا الأصيل بالذات. في الواقع، أوضحت دراسات العمال المسرحين أن أولئك الذين كانوا شغوفين بعملهم شعروا كما لو أنهم فقدوا جزءاً من هويتهم عندما فقدوا وظائفهم، إلى جانب فقدانهم مصدر دخلهم.
عندما نعتمد على وظائفنا لمنحنا إحساساً بالهدف، فهذا يعني أننا نضع هوياتنا تحت رحمة الاقتصاد العالمي.
3. يشجع على الاستغلال
وفقاً للدراسات، إذا كنت "تتبع شغفك" في مساعيك المهنية، فهذا قد يجعلك أكثر عرضة للاستغلال من قبل أرباب العمل.
إذ يفضل أصحاب العمل عادةً المتقدمين المتحمسين للوظيفة على المتقدمين الذين يريدون الوظيفة لأسباب أخرى، لكن هذا التفضيل ليس بسبب رغبة أرباب العمل في تكوين بيئة إيجابية في شركاتهم، إنما لأنهم يتوقعون من أولئك المتقدمين المتحمسين للعمل أن يعملوا بجد أكبر في وظائفهم دون توقع زيادة في الأجر.
4. يعزز ثقافة الإفراط في العمل
في المحادثات مع طلاب الجامعات والعاملين بالكلية، وجدت الدراسة أن عدداً كبيراً منهم على استعداد للتضحية براتب جيد واستقرار وظيفي ووقت فراغ، للعمل في وظيفة يحبونها.
صنف ما يقرب من نصف- أو 46%- من خريجي الجامعات الذين شملهم الاستطلاع الاهتمام أو الشغف بالعمل كأولويتهم الأولى عند التفكير في وظيفة مستقبلية.
هذا بالمقارنة مع 21% فقط الذين أعطوا الأولوية للراتب، و15% أعطوا الأولوية للتوازن بين العمل والأسرة. وقد أعرب بعض مؤيدي الشغف عن أنهم على استعداد لأكل النودلز يومياً إذا كان الراتب قليلاً، كما أنهم على استعداد للعمل 90 ساعة في الأسبوع إذا كان ذلك يعني أنهم سيتبعون شغفهم.
على الرغم من أن العديد من المهنيين يسعون إلى العمل في مجال شغفهم على وجه التحديد، لأنهم يريدون تجنب الكدح من العمل لساعات طويلة في أداء المهام التي لا يرغبون فيها، فإن السعي وراء العاطفة يعزز ثقافة العمل الزائد التي لا تعود بثمار على أصحابها الشغوفين، بل تزيد فقط من أموال أرباب العمل الأغنياء أصلاً.
5. يلغي عدم المساواة في سوق العمل
مبدأ العاطفة ليس مجرد دليل يستخدمه أتباعه لاتخاذ قرارات بشأن حياتهم. بالنسبة لكثيرين، فهو بمثابة تفسير لعدم المساواة في القوى العاملة. على سبيل المثال، بالمقارنة مع أولئك الذين لا يلتزمون بمبدأ العاطفة، كان من المرجح أن يقول المؤيدون إن النساء غير ممثلات بشكل جيد في الهندسة، لأنهن اتبعن شغفهن في مكان آخر، بدلاً من الاعتراف بالجذور الهيكلية والثقافية العميقة لهذا التمثيل المتدني. بعبارة أخرى، يميل مؤيدو مبدأ العاطفة إلى تفسير أنماط عدم المساواة في سوق العمل كنتيجة حميدة للبحث عن العاطفة الفردية.