يعتبر المزاح والقدرة على إلقاء النكت أمراً يلطّف الأجواء ويضيف البسمة للحياة، وموهبة قد لا يتمتع بها كثيرون، لكن بالنسبة لبعض الأشخاص الذين يعانون من حالة طبية غريبةٍ اسمها "متلازمة الهذرة" أو "متلازمة إلقاء النكت المتواصل"، فالأمر أشبه باللعنة التي يتمنون الخلاص منها.
تجبرهم تلك الحالة من بين العديد من التصرفات الغريبة، على إلقاء النكت باستمرار، والمزاح السيئ أحياناً أو التعليقات المسيئة أحياناً أخرى، وإخبار الآخرين بنكت سخيفة ذات محتوى جنسي أو مزعج، حتى لو كانوا أغراباً يلتقونهم لأول مرة.
من بين المصابين بهذا المرض كانت هناك حالتان لشخصين نالت قصتهما شهرة كبيرة بين الأوساط العلمية بسبب غرابة حياتهما وما سببته تلك المتلازمة من ضرر عليهم وعلى من حولهم.
يوقظ زوجته من النوم ليخبرها بنكتة، والسبب متلازمة إلقاء النكت المتواصل!
كانت الحالة الأولى لرجل يبلغ من العمر 69 عاماً، أحضرته زوجته إلى الطبيب لإجراء فحوصات، بعد أن فاض بها الكيل بسبب ما كانت تعاني منه.
في كل ليلة تقريباً ولأكثر من 5 سنوات، كان زوجها يوقظها من النوم ليخبرها بنكتة قد خطرت على باله للتو، أقنعته في النهاية بكتابة تلك النكت بدلاً من إيقاظها وإخبارها مباشرة؛ في محاولة منها للحصول على قسط من النوم في الليل.
سرعان ما ملأ زوجها 50 صفحة من النكت، والتي كانت معظمها إن لم يكن كلها، سخيفة للغاية ولم تكن مضحكة حتى، بعد إجراء الفحوصات والاطلاع على تاريخه الطبي، تبين أنه قبل 10 سنوات من بداية تصرفاته الغريبة عانى من نزيف في الدماغ، ما قد يكون السبب وراء إصابته بـ"متلازمة الهذرة".
ولم تكن النكات السخيفة والاستمرار في إلقائها باستمرار هي الأعراض الوحيدة، ولكن بعد النزيف تغيرت شخصيته وأصبح يتصرف بشكل موسوس وقهري، وأصبح يذهب إلى مكبات القمامة؛ بحثاً عن أشياء جمعها وإعادة تدويرها، على حد قوله. كما طوّر سلوكيات التخزين القهري مثل جمع المناديل والأواني من المطاعم والأماكن الأخرى.
بعدها بفترة عانى المريض مرة أخرى من تغيير سلوكي مفاجئ إلى حد ما، هذه المرة ومع المزاح المستمر. أصبح يدلي بتعليقات مسيئة تجاه الممرضات والنساء الأصغر سناً، تدهورت حالته أكثر وتم الإمساك به في عدة مناسبات وهو يأخذ الحلوى من المتاجر دون أن يدفع، وكشف فحص عصبي لاحق عن إصابته بسكتة دماغية جديدة.
أثناء الفحص ومحاولة الأطباء فهم ما يشعر به المصاب بـ"متلازمة الهذرة" أو "متلازمة إلقاء النكت المتواصل"، أفاد المريض بأنه يشعر بالبهجة بشكل عام، لكن حاجته القهرية لإلقاء النكات وخلق الفكاهة أصبحت مسألة خلاف مع زوجته والتي كان معظمها إما نكات سخيفة ذات محتوى جنسي أو مزعج.
الحالة الثانية جمّع القمصان وآلات القهوة وخسر وظيفته بسبب تعليقاته المستفزة
كانت الحالة الثانية لرجل يبلغ من العمر 57 عاماً، وكان يعاني من "متلازمة الهذرة" لـ3 سنوات، بحسب وصف الأطباء له، كان المريض "مهرجاً"، حيث كان يلقي النكات الطفولية أو التعليقات الساخرة بشكل دائم ويضحك على تعليقاته.
كما أن حالته تدهورت بشكل كبير وأثرت على حياته، وأصبح يقول أو يفعل أشياء غير لائقة مع غرباء لا يعرفهم أو تربطه بهم علاقة مهنية فقط، في مرات كثيرة كان كان يذهب إلى مكاتب زملائه في العمل ويقوم بإطفاء أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم، وفي نزهة العمل قال: "من اختار هذا المكان الفظيع بحق الجحيم؟"، وتسببت تلك التصرفات في خسارة وظيفته.
أما على الصعيد الشخصي، فأصبح يجمع أشياء غريبة ليس بحاجة لها، مثل العشرات من مطاحن القهوة وما يقرب من عشرين قميصاً من هاواي متراكمة في مرآب منزله، وعلى صعيد الغذاء أصبح يأكل الشيء نفسه مراراً وتكراراً، وأصبح مهووساً ببعض الأطعمة السريعة.
كما عانى من تدهور نظافته الشخصية. في مرحلة ما لم يستحم لمدة 6 أسابيع متواصلة على الأقل. المثير للحيرة بالنسبة للأطباء والذين اعتبروا حالته حالة طبية غريبة، لأن تاريخه الطبي السابق لم يُظهر أنه كان يعاني من أي مشاكل نفسية أو جسدية باستثناء استئصال الزائدة الدودية واستئصال اللوزتين، وكان تاريخ عائلته خالياً من الأمراض العقلية أو النفسية.
كما أن نتائج التصوير بالرنين المغناطيسي كانت ضمن الحدود الطبيعية، لكن في زيارات لاحقة لإجراء الفحوصات، استمر المريض في الإدلاء بتعليقات ونكات متكررة، وفي بعض الأحيان يتصرف بطريقة سخيفة وطفولية وغير مناسبة.
على سبيل المثال، في إحدى زيارات العيادة، بدأ يرقص الديسكو. من ناحية أخرى، ناقش علانيةً وضعه الجنسي؛ وفي زيارة ثالثة، أمسك رابطة عنق الطبيب الذي يقوم بفحصه وربطة عنق طبيب آخر، وبدأ في المقارنة بينهما. وخلال كل تلك الأفعال الغريبة، كان المريض ينغمس في الضحك على تصرفاته وتعليقاته.
الأغرب أنه لم يكن يضحك من تعليقات الآخرين ولم يعتبر أي نكتة يسمعها من الآخرين مضحكة، استمر التدهور في حالته الصحية، وتدهور لديه الإدراك، وأصيب في النهاية بمرض باركنسون.
إصابات الدماغ يمكن أن تسبب متلازمة الهذرة
خلص مؤلفو دراسة عام 2020 إلى أن روح الدعابة يمكن أن تتأثر بشكل مختلف بإصابات الدماغ والأمراض العصبية والنفسية. وتشير الأبحاث الحالية إلى أن الفكاهة تحدث في المنطقة الأمامية الجانبية اليمنى من الدماغ.
وقد تتسبب الإصابة في هذه المنطقة من الدماغ، في متلازمة إلقاء النكت المتواصل. وبحسب الدراسة فإن المرضى يكونون حساسين للنكات البسيطة، أو التهريج، وتسبب لهم الضحك، لكنهم لا يقدرون النكات التي يسمعونها من الآخرين أو النكات المعقدة قليلاً. ويفضلون النهايات غير المضحكة.
بالنسبة للحالة الأولى وخضوعه للعلاج بالأدوية، كانت لديه استجابة جزئية في أثناء تناول بعض الأدوية، واختبر المريض انخفاضاً كبيراً في تواتر ومدة نوبات الضحك، ولكن دون أي تأثير على حاجته القهرية إلى إلقاء النكات باستمرار. بمعنى آخر ظلت حالته مستقرة، ولكن دون تقدم ملحوظ أو شفاء تام.