فيما مضى وإلى يومنا هذا يعتقد البعض أن للقمر تأثيراً على سلوك البشر وصحتهم. وفي السابق كان يُعتقد أن القمر قد يتسبب في إصابة الناس بالجنون، حتى إن كلمة Lunatic في اللغة الإنجليزية التي تعني "مختل عقلياً"، مشتقة من الكلمة اليونانية Luna التي تعني القمر. كذلك كان يعتقد أن أعداد المواليد تزداد عندما يكون القمر مكتملاً، إلا أن القصة الأكثر انتشاراً كانت تلك التي تربط بين القمر ودورات الحيض لدى النساء.
هل يؤثر القمر على دورات الحيض؟
على مدى قرون، ربطت كثير من الثقافات بين الدورة الشهرية للنساء والقمر. إذ إن دورة القمر التي تستغرق 29 يوماً حتى يظهر الهلال مرة أخرى، تتداخل على ما يبدو مع دورة الحيض التي تستغرق 28 يوماً.
برزت النظريات التي تشير إلى أن هذا الجرم السماوي -سواء عن طريق جاذبيته أو إنارته- ربما يتزامن مع دورة الخصوبة. ولكن كم من الأدلة الموجودة التي تربط بين الطمث ومنازل القمر؟
يتضح أن معظم الأدلة تشير إلى أن ارتباط الدورة الشهرية لأي امرأة بدورات القمر، لا يكون إلا بالمعدلات المتوقعة بفعل الصدفة. وأشارت دراسات سابقة إلى ضعف العلاقة بين الأمرين.
ففي دراسة تعود إلى عام 1986، أُجريت على 826 امرأة في الدورية العلمية Acta Obstetricia et Gynecologica Scandinavica، اكُتشف أن 28.3% من المشاركات بدأت فترة الحيض الخاصة بهن تقريباً مع طور الهلال، وهي النسبة الأكبر على صعيد تزامن بدء الحيض مع أي طور آخر من أطوار القمر.
لكن دراسة مرجعية أجريت في عام 2013 بالدورية العلمية Endocrine Regulations، تعقبت 74 امرأة على مدى عام كامل، لم تجد أية أدلة حول تزامن أطوار القمر مع دورات الحيض الخاصة بهذه المجموعة من النساء.
التكنولوجيا تحسم الجدل
ساعد ظهور تطبيقات تتبع الدورة الشهرية الباحثين على إجراء دراسات أكثر توسعاً. في عام 2019، حلَّل باحثون في تطبيق تتبع الدورة الشهرية "Clue" تواريخ 7.5 مليون دورة حيض لـ1.5 مليون امرأة مستخدمة للتطبيق. (تجدر الإشارة إلى أنَّ هذا التحليل لم يخضع لمراجعة الأقران، وهي عملية يتولَّى فيها خبراء متخصّصون مهمة تقييم الأبحاث الجديدة قبل نشرها). ولم يجد الباحثون أي دليل على ارتباط الدورة الشهرية بأي طور من أطوار القمر.
قالت تشارلوت فورستر، رئيسة قسم البيولوجيا العصبية وعلم الوراثة في جامعة "فورتسبورغ" الألمانية: "عندما تجمع بيانات فترة الدورات الشهرية لآلاف النساء، فإنَّك لا ترى تراكماً لارتباط الدورة الشهرية بالقمر الكامل (البدر) أو القمر الجديد (المحاق). لكن هناك نتائج مختلفة عندما تنظر إلى البيانات طويلة المدى للنساء أنفسهن".
قالت تشارلوت لموقع Live Science الأمريكي: "لن تتزامن الدورة الشهرية لأي امرأة مع القمر في طور البدر أو القمر الجديد على مدار حياتهن". لكن في دراسة أجريت عام 2021 ونُشرت بالدورية العلمية "Science Advances"، حلَّلت تشارلوت وزملاؤها سجلات تواريخ الدورة الشهرية لـ22 امرأة -تعود جميعها إلى 5 سنوات مضت على الأقل وبعضها يعود تاريخها إلى 32 عاماً- وأظهرت أنَّ ما يقرب من ربع إجمالي مواعيد دورات الحيض المسجلة متزامنة مع القمر الكامل أو القمر الجديد.
وجدت دراسة تشارلوت أيضاً أنَّ تزامن دورات حيض النساء مع الدورة القمرية كان أكثر احتمالاً خلال فصلي الشتاء والخريف عندما تكون الليالي أطول.
تستند فرضية تشارلوت إلى أنَّ سطوع القمر الكامل كان يتيح للناس في الماضي، قبل مصادر الإضاءة الاصطناعية، إطالة ساعات العمل والصيد، لأنَّ الخروج كان أكثر أماناً بفضل سطوع القمر. لذا، قالت تشارلوت: "كان طور القمر الجديد وقتاً أفضل للبقاء في المنزل وممارسة الجنس وإنجاب الأطفال. ومع ذلك، لا يوجد دليل على صحة تلك الفرضية".
يقول خبراء آخرون إنَّ التداخل بين الدورة الشهرية ودورة القمر هو محض الصدفة العشوائية.
قالت ماريغا فلاجيك ويلر، المدربة في مجال علوم البيانات وعالمة البيانات السابقة لدى تطبيق تتبع الدورة الشهرية "Clue" في تصريحٍ لها: "بالنظر إلى البيانات، رأينا أنَّ تواريخ بدء الدورات الشهرية تأتي في أوقات عشوائية على مدار الشهر، بغض النظر عن المرحلة القمرية". وأضافت أنَّه "كلما زاد ارتباط الدورة الشهرية بالدورة القمرية التي تستغرق 29 يوماً، زادت ببساطةٍ احتمالية التداخل بينهما".
وفقاً للباحثين، بافتراض أنَّ دورات الحيض تبدأ في أوقات عشوائية، فإنَّ نحو واحدة من كل امرأتين ستبدأ دورتها الشهرية إما قبل أو بعد 3 أيام من طور القمر الكامل أو القمر الجديد. لكن الدورات الشهرية، التي تبدأ بعد أكثر من 29 يوماً أو تختلف من شهرٍ لآخر، لن تشهد فرصة كبيرة للتزامن مع القمر.
تشير دراسات إلى أنَّه حتى لو كان هناك بعض التزامن، فإنَّه يحدث مع ربع النساء (23.4% من النساء في دراسة تشارلوت فورستر، و28.3% في دراسة عام 1986). لذا، فإنَّ غالبية الدورات الشهرية غير متزامنة مع القمر إطلاقاً.