بعد سقوط غرناطة سنة 1492م، وبداية محاكم التفتيش التي أقامتها الممالك الإسبانية ضد المسلمين في الأندلس، شرع مئات الآلاف من الأندلسيين في الفرار إلى بلاد المغرب العربي؛ هرباً من البطش الإسباني، حاملين معهم جزءاً من ثقافتهم وفنونهم.
وتعدُّ الموسيقى أحد أبرز الفنون التي هجرت مع الأندلسيين إلى بلاد المغرب العربي، وكانت موسيقى المالوف أكثر الفنون الموسيقية التي لقيت رواجاً في كلٍّ من الجزائر وتونس وليبيا في أثناء استقرار المهاجرين الأندلسيين فيها، وإلى الآن لا تزال هذه الموسيقى تمثل في البلدان الثلاثة إرثاً أندلسياً تتوارثه الأجيال حفاظاً عليه من الاندثار.
أصل المالوف يعود إلى إشبيلية وانتقل إلى المغرب العربي مع المهاجرين الأندلسيين
منذ أن وطئت أقدام المسلمين بلاد الأندلس، ازدهرت كثير من الثقافات والفنون في الجزيرة الإيبيرية، وصارت لهذه البلاد الجديدة موسيقى خاصة بها.
شهدت الموسيقى الأندلسية تطوراً كبيراً بعد وصول الموسيقار الشهير زرياب إلى الأندلس، فقد أدخل زرياب آلة العود إليها، كما قام بإضافة الوتر الخامس لهذه الآلة، وجعل مضارب آلة العود من ريش النسور بدل الخشب.
وقام زرياب أيضاً بإضافة مقامات موسيقية جديدة لم تكن معروفة في السابق، إضافة إلى ابتكاره طريقة افتتاح الغناء بالأصوات بدل الأنغام الموسيقية، كما يُعتبر واضع الأسس الفنية التى أقيم عليها فن الموشحات، هذا الفن الذي ابتُكر في الأندلس، بحسب babzman.
وبعد سقوط الأندلس وبداية محاكم التفتيش، وجدت الموسيقى الأندلسية نفسها هي الأخرى مستهدفة من تلك المحاكم، إذ حُظرت الموسيقى الأندلسية على الموريسكيين، ولوحِق أي أندلسي يقوم بعزفها.
ولاستمرار هذه الموسيقى، كان لزاماً على الأندلسيين حملها معهم إلى بلاد المغرب العربي، حيث وجدت هذه الموسيقى بيئة جديدة للإبداع والاستمرار.
ومن بين أنواع الموسيقى الأندلسية التي انتشرت سريعاً في بلاد المغرب العربي، موسيقى "المالوف" المنتشرة في كل من الجزائر وتونس وليبيا منذ القرن الـ15 الميلادي.
وتعود أصول هذا الفن- وفق ما هو متداول وسط الباحثين والمؤرخين- إلى مدرسة إشبيلية، وتم إدخال المالوف إلى بلاد المغرب العربي عن طريق المهاجرين الأندلسيين كما سبق ذكره، وتأثر لاحقاً بالموسيقى العثمانية في أثناء حكم العثمانيين للجزائر وتونس وليبيا، بحسب cnrpah.
يتشكل من 24 نوبة، وكل نوبة يعزفها 30 موسيقياً
يقصد بـ"المالوف"، أحد أكثر الأنواع الموسيقى الكلاسيكية الأندلسية رواجاً وعراقةً في بلاد المغرب العربي، وهو اسم مشتق من كلمة "مألوف" التي تعني "وفي للتقاليد".
يتغنى هذا الفن بالطبيعة وجمال المرأة والحب والفراق ضمن قصائد الشعر والنثر الملحون، ولا يقتصر المالوف الذي يُغنى في العادة باللغة العربية الفصحى، على القصائد والألحان فقط، بل يعدّ جامعاً للمقامات المغاربية العربية الأصيلة.
يسمى المقام الموسيقي في "المالوف" بالنوبة؛ وذلك لتناوب المقامات الواحد تلو الآخر، ويصل عددها في الأصل إلى 24 نوبة نسبة لعدد ساعات اليوم، لكن لم يصل منها إلى عصرنا سوى 12 نوبة فقط.
والنوبة هي مزيج بين الموسيقى العربية والأندلسية ويبلغ عدد عازفيها أكثر من 30 موسيقياً، وتتصدر آلة العود العربية الجوق بينما تنال مجموعة الكمان حصة الأسد، متبوعة بعدد من الآلات الإيقاعية مثل الدربوكة وكذلك آلتي القانون والناي، بحسب marhba.
ويتكون فن "المالوف" من قسمين: الأوّل دنيوي تكون موضوعاته مرتبطة بالأحداث والأماكن، والآخر رباني متصل بالمدائح الدينية الصوفية، حيث يستخدم هذا الفن في حفلات الزفاف، وأيضاً في تشييع جنائز شيوخ الزوايا الصوفية ومريديها. ولكن من حيث الأداء العام، فإن القسمين معًا ينتميان إلى نسيج فني واحد لتشابه الإيقاعات.
لكل منطقة مغاربية مدرسة خاصة بالمالوف
كما تعددت مدارسه في الأندلس، تتعدد مدارس المالوف في بلاد المغرب العربي حسب كل منطقة، ففي الجزائر تشتهر ثلاث مدارس عريقة لموسيقى المالوف، هي: مدرسة تلمسان وتشتهر بـ"الغرناطي"، ومدرسة قسنطينة التي تعدّ عاصمة المالوف، أما ثالث هذه المدارس بالجزائر فهي مدرسة الجزائر، التي عرفت باسم "موسيقى الصنعة".
وتنفرد تونس بالمدرسة التونسية للمالوف، التي تشتهر بما يعرف بالنوبة التونسية التي تتركب من معزوفات ومقطوعات غنائية متتالية، حيث تبدأ بالاستفتاح، وتنتهي بالختم وتتوسطهما إيقاعات موسيقية وغنائية متناسقة، ولعلّ أبرز الفرق التونسية الشهير حالياً بالمالوف هي فرقة الراشدية.
وفي ليبيا يشتهر المالوف الليبي الذي تقوم عليه الزوايا الصوفية، خصوصاً مريدي الطريقة العيساوية، ويعزف في المناسبات، وينحصر انتشاره حالياً، على العاصمة طرابلس التي تقيم سنوياً مهرجاناً خاصاً بموسيقى المالوف.
وبعد أزيد من 6 قرون على انتشاره في المغرب العربي، يعاني المالوف اليوم خطر الاندثار، بعد أن حُصر انتشاره في مدن مغاربية معيّنة.