هل تتخلى عن راتب بالملايين لتجرب حياة “الزهد”؟ تعرف على حركة “المينيماليزم” التي تحارب جنون الاستهلاك

عربي بوست
تم النشر: 2022/09/06 الساعة 12:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/06 الساعة 12:51 بتوقيت غرينتش
المينيماليزم \ shutterstock

بينما كان كل من جوشوا ميلبورن وريان نيكو يعملان في وظيفة توفر لهما راتباً يبلغ 50 ألف دولار في العام، لم يشعر الصديقان بأنهما حققا حلم الثراء الذي لاحقاه منذ كانا صغيرين، بل كانا "تعيسين"، على حد وصفهما، لكثرة مشاغل الحياة التي أرهقتهما باستمرار، وأخذت كامل وقتهما دون انتهاء. 

لم يتغير ذلك إلا عندما وصل ميلبورن إلى قناعة مفادها أن المشكلة في طريقة العيش التي تستهلك كامل طاقته، من أجل الحصول على أشياء لا يحتاجها ولا تنتهي، وبينما كان جالساً مع صديقه نيكو، قرر الاثنان بداية تجربة جديدة، أطلقا عليها "الزهد والتجرد- The Minimalism"، والتي أصبحت خلال سنوات قليلة تجذب العديد من الأمريكيين والأشخاص خارج الولايات المتحدة كذلك، لتصبح إحدى الحركات النشطة خلال سنوات قليلة من نشأتها. 

مازالت هذه الحركة تنتشر بوتيرة متسارعة حول العالم، مؤسِّسة لفكر جديد يجلب السعادة ويعتمد على العيش ببساطة… سنعرفكم عليها أكثر في هذا التقرير: 

المينيماليزم، ضد الاستهلاك القسري وجنون الشراء

قام مفهوم "الحلم الأمريكي" على فكرة أن الولايات المتحدة هي أرض الأحلام، التي توفر لكل المجتهدين فرصة عيش حياة كريمة، إلا أن ذلك "الحلم" أخذ مساراً ربط مفهوم النجاح بالمادة؛ "من يمتلك أكثر يكون في نظر الناس أكثر نجاحاً"، وفقاً لما قالته جوليت شور، دكتورة الاقتصاد وعلم الاجتماع. 

فتح ذلك شهية المجتمع نحو الشراء والسعي وراء امتلاك أغلى العلامات التجارية، وروجت لتلك الثقافة السينما، والبرامج التلفزيونية، والإعلانات، وعالم شبكات التواصل، وكل شيء حولنا تقريباً، وباتت قيمة الشخص مرتبطة بما يمتلكه من أشياء وليس بما يعمله وما يحرزه من نجاح حقيقي في الحياة. 

المشكلة أن تلك الثقافة خلقت شعوراً بعدم الرضا الدائم، فمن الصعب عليك أن تشتري كل ما تتمناه، وإن استطعت فعل ذلك لفترة ما فلن تتمكن من الحفاظ على ديمومة الأمر. 

وبالتالي، ورغم امتلاك العديد من الناس الكثير من الأشياء، فإنهم لا يشعرون بالسعادة والرضا، بسبب حاجتهم إلى المزيد دوماً. 

من أجل ذلك، قامت حركة الزهد والتجرد بمحاولة الحد من الاستهلاكية، عبر توعية الناس حول سر سعادتهم الحقيقي، ألا وهو التخلي عن استهلاك الأشياء غير النافعة. 

وبالعودة إلى جوشوا ميلبورن وريان نيكو، يتبين لنا كيف يمكن تطبيق ذلك في الواقع. فقد بدأ الأمر عندما كان الاثنان في سن الطفولة، إذ لم يحظيا بحياة هنيئة، بسبب فقر أسرهما والمشاكل الأسرية التي عانيا منها، بسبب ذلك سعى الاثنان إلى الوصول إلى الثراء، ظناً منهما أنهما سيحصلان على السعادة بهذه الطريقة، من أجل تحقيق ذلك أعطى الاثنان جل وقتهما للعمل.

وجد ميلبورن أن كل تلك الأسئلة الصعبة لا بد أن تكون لها إجابة عملية في حياته الجديدة التي أخذت في التشكل، وإلا ستمتلئ من جديد تلك الخزانات التي تخلص ميلبورن من محتوياتها. في تلك الفترة لاحظ صديقه ريان نيكو هذا التغيير الذي طرأ عليه، وسأله: "لماذا أنت سعيد هكذا بحق السماء؟!"، فأخبره بقصته مع "الزهد". 

بعد أن وصل كل منهما إلى حلمه اكتشفا أن ذلك الحلم لم يحقق لهما السعادة المرجوة، إذ لم يكن بوسع ميلبورن زيارة والدته طوال فترة مرضها بسبب انشغاله بالعمل، وماتت دون أن يقضي معها بعض الوقت، وهو ما أصابه بصدمة كبيرة

بعد وفاة والدته وملاحظته أنه يجب أن يذهب لمنزلها ليتفحصه، وجد أن المنزل مليء بالأشياء المُخزنة على مدار 60 عاماً، فقرر التخلص من هذه الأشياء للتبرع بجزء منها وبيع الباقي، وبهذا بدأ ميلبورن أولى خطواته نحو المينيماليزم دون أن يقصد. 

ميلبورن والتحول إلى المينيماليزم

مع الوقت تدرب ميلبورن على التخلص من الفوضى بأسلوب بسيط، عبر طرح سؤال على نفسه أمام كل شيء يمتلكه، أو يفعله في حياته: "هل هذا الشيء يضيف قيمة لي؟"، وكلما طرح ميلبورن هذا السؤال اكتسب المزيد من القناعة حول الزهد، وزاد شعوره بالسعادة، وهكذا بدأ يفتش في غرفته وخزانته وأروقته وسيارته ومكتبه، بحثاً عن أشياء لا يحتاجها ولا تضيف له قيمة حقيقية.

على مدار 8 أشهر من وفاة أمه، استطاع ميلبورن التخلص من 90% من ممتلكاته المادية، وأصبح كل شيء يمتلكه في منزله يخدم هدفاً ذا وظيفة أو يبعث في نفسه البهجة، وكل ما خلاف ذلك لا وجود له، كما يروي

بإزالة كل هذه الفوضى بدأ ميلبورن في طرح أسئلة أكثر على نفسه مثل: متى أعطيت كل هذه الأهمية لكل هذه الممتلكات المادية؟ ما المهم حقاً في حياتي؟ لماذا كنت أشعر بهذا القدر من عدم الرضا؟ من الشخص الذي أريد أن أكونه وكيف سأحدد معيار نجاحي؟ 

قرر نيكو فور سماعه قصة صديقه أن يبدأ فوراً في تنفيذ وصفة المينيماليزم، ولكن بطريقة أسرع، إذ لم يرغب نيكو في قضاء عدة أشهر في التخلي ببطء من الأشياء التي يمتلكها كما فعل صديقه، وبهذا توصل نيكو لفكرة "حفلة حزم الحقائب- backing party". 

عمل الاثنان على حزم كل ممتلكات نيكو، كما لو أنه سينتقل إلى منزل آخر، وعلى مدار 3 أسابيع أخرج نيكو الأغراض التي احتاجها فقط من الصناديق. بعد انقضاء المدة، اكتشف نيكو أن 80% من أغراضه لا تزال في محلها داخل الصناديق، وشعر للمرة الأولى بأنه حر، وأنه قد استعاد وقته بل حياته كلها، على حد وصفه

ترسخت فكرة المينيماليزم عند نيكو كطريقة ومنهج للحياة، للتركيز أكثر على المجتمع وليس الاستهلاكية، على الناس وليس الأشياء، على العطاء وليس الأخذ، وبهذا كوَّن الاثنان نواة حركة المينيماليزم الأولى، وأطلقا من أجل نشر تلك الفكرة مدونة لنشر خواطرهما، ولجذب الآخرين لها، وذلك في عام 2010.

في الشهر الأول، زار 52 شخصاً فقط موقعهما، لم يكن رقماً كبيراً، ولكن الاثنان كان يملأهما الحماس، وعبر ذلك الحماس الذي لم ينقطع، أصبح الاثنان وخمسون شخصاً ملايين من الأشخاص، الذين استطاع كل من ميلبورن ونيكو مشاركة فكرة المينيماليزم معهم.

ما بين حلم الثراء وحلم تغيير العالم 

كنموذج آخر على الأشخاص الذين تحولوا إلى "الزهد" كانت فكرة النجاح بالنسبة لـ"إيه جيه ليون" تتلخص في الوصول إلى الرخاء المالي، والوصول إلى الراتب المكون من 6 أرقام. لذا فعندما كان يختار ليون تخصصه الجامعي كان تركيزه منصباً على التخصصات التي تعود عليه بعائد مادي، تجعل منه فيما بعد رجلاً ثرياً. 

لم يأخذ ليون الكثير من الوقت لكي يصل إلى مبتغاه، إذ توضح العديد من الدراسات المنشورة على الإنترنت ما هي العوائد السنوية المتوقعة من كل تخصص موجود في الجامعات الأمريكية، وبناءً على ذلك، وقع اختيار ليون على دراسة إدارة الأموال والأسواق المالية والمحاسبة. 

أصبح ليون سمساراً في وول ستريت، وسرعان ما قفز عدة قفزات في مساره المهني، جعلت منه الرجل الذي يحصل على راتب مكون من 6 أرقام، وهو ما أراد تحقيقه عند اختيار تخصصه والشكل الذي تمناه لحياته. عند هذا الحد كانت حياة ليون مرتبطة بمفهوم المكسب والخسارة والحصول على مزيد من القوة والاحترام بين الناس، والتي كان يرى أنها لا تحصل إلا بكسب المزيد والمزيد من المال. 

في 2007، استُدعي ليون إلى مكتب رئيسه ليبلغه أنه قد حصل على ترقية ليصبح أصغر شريك في شركته، ولكن بدلاً من الفرح بهذا الخبر الذي كان ينتظره ليون منذ أن دخل عالم الأسواق المالية، بدأ ليون في النحيب داخل مكتبه، إذ أدرك في هذا التوقيت أنه أصبح محاصراً من حياة لا تنتهي متطلباتها، وقد يُفني فيها حياته دون عيش حياة هادفة ذات معنى. 

منذ تلك اللحظة، قرّر ليون أخذ مسار معاكس فاستقال من وظيفته، واعتنق فكر الزهد الذي يسمح للشخص بعيش حياة تتشكل حسب ما يريد، وليس السعي وراء المادة دون هدف، كما وصف ليون. 

بهذا الصدد بدأ ليون جولة حول العالم، استطاع من خلالها استكشاف عوالم جديدة، وتكوين صداقات في أكثر من 70 دولة، كما قام بتأسيس العديد من المؤسسات الاجتماعية والخيرية التي تعمل على توعية الناس بفكرة التجرد والزهد وكيفية امتلاك الحياة. 

باستخدام حيل التصميم الذكية، يتيح المنزل الصغير مساحة لجميع الضروريات المهمة؛ مثل مساحة المعيشة والمطبخ وغرفة النوم والحمام، بالإضافة إلى أماكن التخزين الأساسية. وتأتي فكرة المنزل الصغير متماشية مع حركة الحفاظ على البيئة، إذ تستهلك المنازل الصغيرة طاقة أقل، وهو الأمر الذي يقلل من الضرر بالبيئة، كما أنه يعمل على تقليل المصاريف الشهرية أيضاً. غير ذلك يكون سعر هذه المنازل عادة أقل من سعر المنازل العادية بأكثر من 80%

اتجه ليون أيضاً إلى هواياته التي أحبها وأراد العمل بها، فأخذ خطوات كبيرة نحو الكتابة وصناعة الأفلام، فأنشأ استوديو ميسفيت للإنتاج الفني، ليعمل ليون كمنتج لعدة أفلام حازت جوائز عدة مثل: Confection وNew Year وFever وStarship Impossible. كما أخرج ليون فيلم الرسوم المتحركة "Death is Smoking my Cigars". وعلى صعيد الكتابة، نشر ليون كتابه "The Life and Times of a Remarkable Misfit" الذي يحتوي على عدة مقالات حول الأفكار الصغيرة التي يستطيع الشخص فعلها لتغيير العالم. 

الأقل هو الأكثر.. مشاريع "المينيماليزم" التي تحقق البساطة في الحياة 

تحدي 333 والتخلي عن الملابس الزائدة 

لم تكن كورتني كارفر- مصممة أزياء انضمت إلى حركة الزهد- تعلم أن "تحدي 333" الذي صممته سيحظى بهذا الإقبال الكبير من قبل متابعيها. ففي 2010، كتبت كورتني أولى مدوناتها حول الملابس التي تكتظ بها دوالايب منازلنا، ومن أجل ذلك صممت التحدي، الذي أصبح شهيراً في العديد من البلاد فيما بعد. 

يتضمن "تحدي 333" استخدام 33 قطعة أو أقل لمدة 3 أشهر، والتي تتضمن الملابس الخارجية، والإكسسوارات، والمجوهرات، والأحذية. 

تقول كورتني بهذا الخصوص: "قبل بضع سنوات كنت أحلم بخزانة كبيرة لاستيعاب المزيد من الأشياء، إلا أنني اليوم يمكنني بسهولة تخزين ملابسي وإكسسواراتي من دون خزانة". وتصف أن التحدي مصمم لتدريبنا على التخلي عن الملابس التي لا نحتاج إليها، لتصبح عادة لدينا وليس تجربة تنتهي بانتهاء التحدي. 

وتضيف كورتني أن اتخاذ هذا التحدي كأسلوب للحياة، يعمل على تقليل التوتر وتحقيق المزيد من السلام الداخلي والراحة في الحياة، والذي يبدأ بخزانة ملابس صغيرة، الأمر الذي وصفته بـ"البسيط". كما تؤكد كورتني أن هذا الأمر لن يلاحظه أحد على الإطلاق، إذ قامت هي بتجربة ذلك الأمر، ولم يلحظ أحد من أقرانها قلة الملابس، بعد أن كانت تكتظ غرفة ملابسها بالإكسسوارات والملابس والأحذية. 

ومن أجل تسهيل خوض التحدي، صممت كورتني دورةً إلكترونية لتأخذ من يريدون تنفيذ التحدي في رحلة لتحقيق هذا التحدي بسلاسة ويسر، كما نشرت كورتني- لنفس الغرض- كتاباً بنفس عنوان التحدي؛ "مشروع 333: تحدي الموضة البسيط الذي يثبت أن الأقل هو الأكثر". 

في السياق نفسه، أطلق كل من جوشوا ميلبورن وريان نيكو على موقعهما برنامج تحت عنوان: "مينيماليزم لمدة 30 يوماً"، يعمل على نفس فكرة تحدي 333، ولكن بشكل موسع وأكبر. ففي المينيماليزم 30 يستهدف فيه الشخص دعوة شخص آخر- صديق أو زميل عمل أو فرد من العائلة- ليبدأ كل منهما في تقليل أشياء ومكونات المنزل لمدة شهر. 

يتخلص كل شخص من شيء واحد في أول يوم من الشهر، ثم شيئين في اليوم الثاني، وثلاثة أشياء في الثالث، وهكذا دواليك، ويشمل ذلك كل شيء داخل المنزل من أدوات المطبخ، إلى الإلكترونيات، والأثاث، والمفروشات، والملابس، والأدوات، كل شيء. بعد ذلك يعمل كل من الشخصين على التبرع بتلك الأشياء أو بيعها كما يحلو للشخص. 

يصف الأمر كل من ميلبورن ونيكو بأن "اللعبة قد تبدو في بدايتها سهلة، إذ يمكن لأي شخص التخلص من بعض العناصر، لكن اللعبة تزداد صعوبة بشكل كبير بحلول الأسبوع الثاني، عندما يضطر الشخص إلى التخلي عن أكثر من اثني عشر عنصراً في اليوم، وتزداد صعوبة الأمر مع تقدم الشهر". ويربح في النهاية من يحافظ على استمراريته أطول فترة ممكنة، وتكون اللعبة أكثر تشويقاً كلما زاد عدد المشتركين فيها. 

البيوت الصغيرة والحصول على منزل بأقل سعر

في الوقت الذي تزيد فيه أسعار السلع بعد وباء كورونا وأزمة أوكرانيا وروسيا، أصبح من أحد أكبر المشاكل حول العالم أسعار المنازل التي قفزت بشكل جنوني. في هذا الإطار، تأتي أكبر مشاريع حركة المينيماليزم حول العالم "البيوت الصغيرة" لتحاول حل هذا الأمر عبر فكرة المينيماليزم. 

تأتي هذه الفكرة بسبب الأعداد المتزايدة لأولئك الذين يريدون أسلوب حياة أكثر بساطة وأقل ازدحاماً وتكلفة، ويأتي مشروع البيوت الصغيرة نتيجة لثقافة المتجردين من معتنقي فكرة المينيماليزم التي تحارب النزعة الاستهلاكية. 

في هذا الإطار، دخلت شركة تسلا لصاحبها إيلون ماسك في هذا السوق المتنامي، لتقوم بتصميم منازل صغيرة، ولكن هذه المرة ببصمتها، عن طريق تزويد تلك المنازل بالألواح الشمسية لتعمل بالطاقة النظيفة، وتحقق فكرة المينيماليزم، والتي يكون متوسط أسعارها حوالي 10 آلاف دولار، وهو رقم زهيد بالنسبة لشراء منزل في الولايات المتحدة. 

إن حركة المينيماليزم لا تستهدف التخلي عن الاستهلاكية وأغراضنا دون هدف، ولكنها تعمل على ترسيخ فكرة نفع الآخر، عبر الحد مما يجعلنا نتصارع لكسب المزيد من المكانة الاجتماعية والمادية، والتي تجعل حياتنا غير سعيدة، وهو الأمر الذي بدأ ينتشر حول العالم. 

تحميل المزيد