ككثير من اللحظات السياسية الفارقة، ما زال الجزائريون يختلفون في توصيف ما حدث في 19 يونيو/حزيران 1965، فمنهم مَن يصف ما قام به هواري بومدين بالانقلاب العسكري، ومنهم من يرى فيه تصحيحاً ثورياً.
ولا شكَّ أن محاولة إثبات التوصيف الصحيح، الأول أم الثاني لن يضيف للنقاش شيئاً، كما لن يقنع أي طرف بتغيير رأيه؛ لذلك فإن تسليط الضوء على بعض التفاصيل والكواليس التي لعبت دوراً حاسماً في نجاح عملية الإطاحة بأول رئيس في تاريخ الجزائر المستقلة سيكون أفيد.
تحالف ثم تنافر
بدا جلياً لقادة الثورة التحريرية في الجزائر سنة 1960 أن الاستقلال آتٍ لا محالة، وما هي إلا مسألة وقت ليطلع فجر الحرية والانعتاق من الاستبداد الفرنسي، وهو ما وقع فعلاً بعد سنتين؛ ليُسدل الستار على صراع طويل مع العدو؛ لنبدأ صراعات أخرى بين رفقاء السلاح.
نشبت الخلافات بين قادة الثورة الذين بات كل واحد منهم يرى نفسه أهلاً لقيادة البلاد، لكن القوة التي كان يملكها الجيش المرابط على الحدود الغربية، بقيادة بومدين، حسم الصراع لصالح أحمد بن بلة على حساب بقية القادة الذين تشتتوا فيما بعد بين سجين وقتيل ولاجئ وفارّ.
التحالف بين بومدين وبن بلة كان مرحلياً؛ إذ استخدم الأولُ الثانيَ مطيةً لتحييد قادة الثورة من معادلة الحكم، بينما استخدم الثاني قوة الأول للوصول إلى السلطة، وكان لكل منهما ما أراد فعلاً.
بعد استتباب الأمر لابن بلة وبومدين بدأت حرب خفية بين الرجلين، فالرئيس بات يتوجس من طموح وخطورة قائد أركان الجيش الشاب، ووصل به الحد إلى إيقاف مخصصات الجيش للحد من تنامي قوة المؤسسة العسكرية.
ويروي الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في مذكراته أن بن بلة قدَّم ذات يوم، وزير دفاعه لصحفي أجنبي بهذه العبارة: "هذا هو الرجل الذي يتآمر ضدي".
كما قال إن بومدين اعترف له في أكتوبر/تشرين الأول 1963 بأنه ضاق ذرعاً بأحمد بن بلة، وبطريقة إدارته للشأن العام، وحدثه عن تردّي العلاقة بينهما: "الأمور ما تعجبش".
التخطيط ودور بوتفليقة
وصلت الطريق إلى نهايتها، وكان لا بدَّ أن يحسم أحد الرجلين الصراع، وفي طريق بن بلة للإطاحة بومدين كان الأخير يتقدم بخطوة، وقد بدأ التحرك فعلاً بعد أن ضمن ولاء المقربين من الرئيس، وعلى رأسهم الوزير الشاب عبد العزيز بوتفليقة.
قرر بن بلة أن تستضيف الجزائر القمة الإفريقية الآسيوية في 29 يونيو/حزيران لكسب شرعية دولية، وهو ما رأى فيه بومدين خطراً عليه، فقرر أن يكون تحركه قبل هذا التاريخ مهما كلفه الأمر.
التحرك الأول كان عن طريق بوتفليقة، الذي سافر في شهر أبريل/نيسان سراً إلى باريس للقاء الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول، ويُعلمه بتحرك الجيش ضد الرئيس طالباً دعماً سياسياً.
عاد بوتفليقة دون أن يحصل على إجابة حاسمة من الرئيس الفرنسي، فقرر بومدين عقد اجتماع سري بمنزل العقيد علي منجلي في 26 مايو/أيار حضره بوتفليقة الذي كان وزيراً للخارجية وقتها، وأحمد مدغري الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية.
وكان الهدف من الاجتماع التخطيط لعملية الإطاحة بالرئيس، وبعد قرابة أسبوعين تصل رسالة من الأمين العام لوزارة التسليح الفرنسية إلى أحد رجالات بومدين، يقول فيها ديغول وفق ما جاء في كتاب "الإشكالات الكبيرة في الجزائر" للكاتب جاك دو روني: "إن ديغول يتمنى أن تستمر العلاقات الجزائرية الفرنسية، وإنه لا يريد التدخل في شؤون الجزائر الداخلية ويتمنى أن تتجنبوا إراقة الدماء".
كانت الرسالة واضحة وبات الطريق مفتوحاً للإطاحة بأول رئيس في تاريخ الجزائر وتمت العملية يوم 19 يونيو/حزيران 1965 وأطلق عليها اسم "طارق بن زياد".
وأصبح هذا التاريخ عيداً وطنياً مدفوع الأجر سمي عيد "التصحيح الثوري"، وألغى بوتفليقة الذي لعب دوراً مهماً في صنع هذا اليوم الاحتفالات به نهائياً ذلك سنة 2003.
صلح تاريخي
رحل بومدين سنة 1978 وتولى الرئيس الشادلي بن جديد الحكم خلفاً له، ومن بين القرارات التي أصدرها، رفع الإقامة الجبرية التي كان يعيش فيها بن بلة طيلة فترة حكم هواري بومدين، ابتعد بن بلة عقداً كاملاً عن الجزائر، ثم عاد ليمارس السياسة، لكنه لم ينجح في تحقيق شيء ليعتزل بعدها.
ومع وصول عبد العزيز بوتفليقة إلى سُدة الحكم سنة 1999، سعى لإصلاح علاقته مع بن بلة بشتى الطرق، وهو ما حدث فعلاً؛ حيث أعاد له الاعتبار وأصبح يستقبله في كل مرة كرئيس سابق يحضر الاحتفالات الوطنية الرسمية، وألغى من أجله الاحتفال بعيد التصحيح الثوري، وأصبح في وقته دارجاً استعمال وصف انقلاب لما حدث، كما خصص له جنازة رئاسية بعد وفاته سنة 2012.