طوال فصلي الربيع والصيف، يطغى اللون الأخضر القوي للكلوروفيل مساعداً النباتات على امتصاص ضوء الشمس الواهب للحياة، لكنه يخفي أي ألوان أخرى موجودة في ورق الشجر، سرعان ما تظهر للعيان في فصل الخريف مشكلةً لوحات طبيعية في غاية الجمال.
فاللون الأصفر والبرتقالي الزاهي لأوراق الخريف موجودان، لكنهما مخفيان؛ ثم أخيراً في الخريف، تكسر الأشجار الأصباغ الخضراء والمغذيات المخزنة في أوراقها وتظهر الألوان التي كانت مختبئة.
أما العناصر الغذائية فتنتقل إلى جذور الشجرة لإعادة استخدامها في الربيع، ثم تتألق الأشجار بحلَّة زاهية من الألوان النارية متدرجة من الأصفر والبرتقالي فالأحمر وأخيراً البني، لتعلن موتها المؤقت نحو 6 أشهر.
ولكن مِن أهم مميزات الطبيعة استخدام الطاقة بطريقة اقتصادية ودقيقة، فلماذا تكتسي ألوان أوراق الشجر بالأحمر الصارخ إذا ما كانت ستتساقط وتموت؟
هذا السؤال ما زال يحير العلماء، وتم ترشيح فرضيتين للجوء الأشجار إلى هذا الانتقال التدريجي.
تكلفة صيانة ورق الشجر غالية في الشتاء
ولكن أولاً، لا بد من الإشارة إلى تأثير التغيرات الموسمية على الأشجار التي تستطيع أن تقاوم أقسى درجات البرد ومختلف الظروف الجوية القاسية لتعود للحياة مع كل موسم ربيع.
يجلب الشتاء معه مزيجاً من البرد والظلام، ما يعني أن تكلفة حفظ الأوراق وصيانتها أعلى من فوائد التمثيل الضوئي المحتملة، حسب ما نشره موقع Nature.
تميل النباتات إلى أن تكون مقتصدة، لذا فإن شيخوخة الخريف أقل من التخلص من القمامة وأكثر من مشروع إعادة التدوير.
قبل أن تتفكك الورقة شبه المقرمشة وتتساقط إلى الأرض، تتكسر الجزيئات الكبيرة مثل البروتينات والدهون والأحماض النووية، ويُعاد توجيهها إلى أجزاء أخرى من الشجرة بشكل عام، ليتم تخزينها من أجل "إعادة الميلاد" الربيعي.
ولكن إحدى المواد التي يتم تكسيرها هي الأصباغ الخضراء للكلوروفيل، ما يسمح للون البرتقالي والأصفر للكاروتينات والأصباغ الأخرى بالتألق حقاً.
ومن هنا، تعتبر ألوان الخريف منتجاً ثنائياً لفقدان الكلوروفيل، لكن هذا التفسير لا ينطبق على جميع ألوان الخريف، وتحديداً اللون الأحمر الصارخ.
الصبغة الحمراء قيمة غالية للأشجار
يأتي تلوين الخريف الأحمر في أوراق الشجر من صبغة تسمى الأنثوسيانين، وهي مكلفة للغاية بالنسبة للنباتات، حسب ما أوضحت البروفيسورة في جامعة ماكماستر الكندية سوزان دادلي.
على الرغم من أن الأنثوسيانين يمكن أن يتراكم في غير أوقات الخريف، فإن احمرار الأوراق الرئيسي في الخريف يرجع أساساً إلى التوليف الجديد لكمّية ضخمة من الأنثوسيانين.
عادة، عندما تشهد النباتات أي تغييرات فهي ليست بلا سبب أو لوجود نية، ولكن لأن النباتات التي تهدر طاقتها على الرعونة ستخسر مع مرور الوقت التطوري.
الأمر الذي يطرح السؤال: لماذا تنفق كثيراً من الطاقة لتلوين الأوراق بالأحمر إذا كنت تخطط لإسقاطها في نهاية المطاف؟
توصل العلماء إلى احتمالين رئيسيين لسبب تكوين أصباغ جميلة للأشجار الأكثر احمراراً، حسب ما شرحها موقع Plants and Pipettes:
النظرية الأولى تتعلق بالحماية
تتضمن شيخوخة أوراق الخريف تفكيك مركبات البروتين التي تلتقط الطاقة الضوئية. وعلى الرغم من الحرص على تفكيك هذه المركبات بطريقة منظمة، فإن تفكيك الجزء الخطأ من هذا النظام المعقد في الوقت الخطأ قد يعني التقاط قدراً كبيراً من الطاقة (الخفيفة)، دون وجود مَنفذ لها؛ ما يتسبب في زيادة الحمل على النظام وإتلاف النبات.
وحتى لو سارت الأمور بسلاسة، فإن الطقس الأكثر برودة يميل إلى إجبارها على العمل بشكل أبطأ بكثير، ما يعني أن مصير الطاقة الضوئية المجمعة قد ينتهي بعدم وجود منفذ استهلاكي.
لذا، يعمل الأنثوسيانين كنوع من الواقي الشمسي الجزيئي، حيث يمتص الضوء وبالتالي يحمي بقية الخلايا النباتية من الأشعة الزائدة.
النظرية الثانية تتعلق بالتفاعل مع الحشرات
تنص هذه النظرية على أن النباتات تحوّل أوراقها إلى اللون الأحمر المتعمد كطريقة للإشارة إلى الحشرات (خاصةً حشرات المن) بأن الأوراق على وشك الموت، ومن ثم لا ينبغي أكلها أو استغلالها بأي طريقة أخرى.
يُعرف هذا النوع من الإشارات باسم "الإشارات الصادقة"، لأن الورقة فعلاً على وشك الموت.
يستفيد من الإشارة الإشهارية النبات والحشرة على حد سواء.
تم اقتراح هذه النظرية للمساعدة في تفسير سبب وجود درجات مختلفة من ألوان الخريف حسب أنواع الأشجار المختلفة، والسبب هو اختلاف أنواع الحشرات الشريكة في السكن على هذه الأوراق، إضافةً إلى شدة هجومها وحتى توقيته.
من بين النظريتين، تُعد نظرية الحماية أكثر احتمالاً، لأن الأنثوسيانين يلعب دوراً واضحاً ليس فقط في امتصاص الضوء، ولكن في التنظيف عند حدوث حمولات زائدة، فهي تساعد في إزالة السموم من أنواع الأوكسجين التفاعلية.
ظاهرة منتشرة شمالاً حيث البرد
من الجدير ذكره أن الأوراق التي تقبع في الظل لا تكتسي باللون الأحمر، ويشيع انتشار هذه التحولات في شرق أمريكا الشمالية وآسيا أكثر من أوروبا، بما يتماشى مع مناخ هذه المناطق التي تتعرض فيها النباتات لموجات برد مفاجئة متزامنة مع كثافة إضاءة عالية.
في كلتا الحالتين، يبدو أن الأوراق الحمراء لم تُصنع فقط لإسعاد الناس، من وجهة نظر جزيئية وتطورية على الأقل، ومع ذلك فهي تقوم بهذه الوظيفة بإبداع وإن كان السبب الحقيقي ما زال مجهولاً.