لقد بات من الصعب أكثر من أي وقتٍ مضى أن نمنح الثقة بشكل كامل للآخرين، وذلك في عصر يسود فيه عدم اليقين والاضطرابات والاحتيال.
ولحسن الحظ نمتلك دائرة من الأصدقاء، والأقل الذين من الممكن أن نلجأ إليهم ونعتمد عليهم، لكن في بعض الأحيان حتى ذلك قد يكون صعباً، خاصة إذا ما واجه الشخص تجارب قاسية في علاقات الزواج، أو نضج في أسرة تعاني من مشاكل ضعف الثقة والشعور بالأمان.
وتُعد مشكلة عدم الثقة في الآخرين من أكثر الاضطرابات المؤذية والمُنهكة للعلاقات بأنواعها، وبداية من الشكّ إلى الرهبة الصريحة تجاه الآخرين يمكن أن تدمر مشاكل الثقة العلاقات الأسرية وعلاقات الصداقة والعمل.
ولكن كيف يتغلب المرء على أزمة عدم الثقة في الآخرين بسبب الوقوع في تجارب مؤلمة في الماضي؟ وما مدى تأثير هذه المشكلة على نواحي الحياة المختلفة؟ وكيف بالإمكان تجاوز هذا الاضطراب والبدء في كسب الثقة في الآخرين من جديد؟ في هذا التقرير نستوضح ذلك بالتفصيل.
ما هي الثقة؟
من أجل فهم فكرة عدم الثقة في الآخرين، يجب أولاً أن نفهم ما هي الثقة. ووفقاً للغة فإن تعريف الثقة هو "الإيمان الغريزي المطلق بشيء ما، واعتقاده بيقين". ويعرّف قاموس أكسفورد الثقة على أنها "إيمان راسخ بمصداقية شخص أو شيء ما، أو صدق موقفه أو قدرته أو قوته"، بحسب موقع Psychcentral للصحة النفسية.
على سبيل المثال، نحن نثق في الأشخاص الذين يتمتعون بالنزاهة، والذين تتوافق أفعالهم مع أقوالهم، كما نثق في الشخص الذي يمكننا الاعتماد عليه للقيام بما هو "صواب" باستمرار.
وعلى مستوى العمل، تتضمن الثقة في الآخرين القدرة على "القيام بشيء ما دون خوف أو شك في قدراته ونزاهته".
وتُعد الثقة في الآخرين أمراً حيوياً للغاية لرفاهيتنا وقدرتنا على الحياة بصورة طبيعية وصحية، وهو الأمر الذي تعتبره الغالبية العظمى من الناس قاعدة محورية لبناء العلاقات.
لماذا نفقد الثقة في الآخرين؟
السبب الأساسي في شعورنا بعدم الثقة في الآخرين هو تعصُّبنا لأنفسنا، إذ نبدأ في التعصُّب لأنفسنا إذا ما خضنا تجربة سابقة مؤلمة، سواء من أحد أفراد الأسرة الذين خاب ظننا فيهم، أو بسبب خيانة أحد الأصدقاء، وصولاً إلى كذب الزوج أو الزوجة وعدم صدقهم خلال العلاقة.
ويقول الأستاذ في علم النفس جوشوا كولمان، في مقال له حول الثقة والخيانة بموقع Greater Good، إن اليقظة والتحفُّظ المفرطين بعد التعرض لخيانة الثقة يهدف إلى منعنا من الوقوع في تجربة خيانة أخرى، إلا أن الجانب السلبي لهذه اليقظة المفرطة هو أنها تبقينا معزولين عن الآخرين.
ويبدأ الشخص في البحث عن العلامات، واختراع الأفلام في رأسه حول كيفية خيانة الشخص المحتملة لنا، "لأن الخوف وتوقع الألم من الآخرين يبقيان مشاعر عدم الثقة في الآخرين يقظة ومتجددة"، على حد قوله.
ولسوء الحظ، يتحول فقدان الثقة المستمر إلى حالة من التخريب والتدمير الذاتي. على سبيل المثال، عندما تشك في الآخرين، تبدأ في بناء الحدود بينكما، وتمتنع عن التقارب منه، أو منحه الفرصة في كسب مودتك، وهو بدوره ما يجعلنا نفقد فرص التعرُّف على الناس والتواصل وتكوين الصداقات وبناء الأسرة.
كذلك فإن قلة الثقة بالنفس والشعور المزمن بالوحدة وحتى المعاناة من درجات القلق الاجتماعي أو Social Anxiety، كل ذلك من نتائج هذا النوع من التدمير الذاتي التي تتغذى على شعور عدم الثقة في الآخرين.
ويترتب على هذا النمط الانغماس في مشاعر سلبية، مثل الغيرة والتشاؤم وسوء الظن والعدائية.
تبعات فقدان الثقة
دائماً ما تكون مشكلات الثقة هي العقبة الأولى أمام التواصل والحميمية وبناء العلاقات الوطيدة بالآخرين، وعندما تواجه مشكلات الثقة في علاقة ما لا يمكنك الشعور بالحرية والأمان، أو جعل نفسك هشاً ومستسلماً، وهي من الأمور الضرورية لتحقيق نجاح العلاقات وفقاً لموقع Psychcentral.
ويُعد التغلب على مشكلات الثقة في العلاقات أمراً صعباً، ويحتاج الكثير من الجهد والعمل.
وإذا كانت لديك مشكلات ثقة حقيقية فهذا يعني أنك قد تعرضت للأذى في الماضي، إذ يواصل جهازك النفسي الدفاعي منعك من الثقة في الآخرين، على اعتبار أن ذلك سيحميك من التعرض للخيانة أو الإذلال أو الاستغلال أو التلاعب، وهي المشاعر التي تشعر أنها ستكون ساحقة وقاتلة إذا ما عانيت منها مجدداً.
كيف يمكن التغلب على هذه المشكلة؟
الخطوة الأولى في تجاوز أزمة عدم الثقة في الآخرين هي أن تتذكر أنها لن تكون عملية سهلة، إذ يمكن أن تفلح مرة وتخفق مرّتين، وقد تشعر بفترات من الإحباط والحزن والوحدة خلال الرحلة.
وبحسب موقع WebMD الصحي، تستغرق عملية بناء الثقة وقتاً أطول بكثير من هدمها، ومع ذلك، يجب أن تعلم أن الأمر يستحق كل هذا الجهد، لأنه يعادل مدى قدرتك على بناء أسرة متينة وملائمة لنمو أطفالك المستقبليين بشكل سوي وصحي، وهي مؤشر على قدرتك في بناء صداقات قوية يمكن الاعتماد عليها فعلاً.
وعندما تشعر أنك مستعد لبدء إعادة البناء، فإن الإجراء الأول الضروري هو محاولة منح الآخرين "فضيلة الشك"، أو احتمالية استحقاقهم لحُسن الظن.
وقد تجد أن هذه العملية هي الأكثر صعوبة في الرحلة، لأنها تتطلب منك التخلص من المشاعر الحذرة التي كنت تتشبث بها بإحكام حتى الآن.
لكن ذكِّر نفسَك أنه لا يمكن أن يكون كل الناس من حولك يحاولون "النيل منك"، وأن مجرد تجربة أليمة سابقة لا يعني أن كافة التجارب لها نفس النتائج.
أما إذا كنت تعرف شخصاً عزيزاً لديه مشاكل ثقة تجاهك فأخبره مراراً وتكراراً أنك تهتم به، وأنك لن تخون ثقته، وكن مستعداً للإجابة عن أسئلته لك بنبرة مريبة أو اتهامية، واعلم أن هذا ليس انتقاداً لك أو انتقاصاً منك، بل هو رد فعل لظروف سابقة مؤلمة مرّ بها، بحسب Good Therapy النفسي.
وحاول ألا تضغط عليه بشدة، لأنك لا تريد إخافته أو تهديده في النهاية، بل كن مستمعاً جيداً وصبوراً، ودع الوقت والتجربة التراكمية تتكفلان بالباقي.
متى تتم الاستعانة بالمساعدة المختصة؟
إذا كنت تعاني في رحلة استعادة الثقة في الآخرين فاعلم أن المساعدة المهنية متاحة، إذا كنت قد خنت ثقة أحد أحبتك، أو تعرضت للغش والخيانة في الماضي، فقد يكون العلاج مع مختص نفسي مفيداً لك وفق PsychAlive.
كما يمكن أن تكون جلسات العلاج الجماعي مفيدة أيضاً، حيث ستجد مساحات من الصداقة الحميمة تجمعك بالآخرين، الذين يكافحون من أجل تحقيق نفس أهدافك. بينما قد لا تكون قادراً على الوثوق بالعديد من الأشخاص، قد تجد أنه يمكنك الوثوق بشخص يعاني من مشكلتك نفسها، وهذه خطوة إيجابية نحو المضي قدماً.
أيضاً، خُذ بعض الوقت لتحليل شخصيتك، وبعض العناصر فيها التي قد تجعل الثقة في الآخرين أمراً صعباً بالنسبة لك. مثلاً هل أنت منعزل وانطوائي؟ هل تعاني من مشكلات الثقة في النفس التي تسبب لك الشك في صدق الناس من حولك؟ هل تعاني من التوتر والقلق المزمن أو الهوس OCD؟
إذ يمكن ربط مشكلات الثقة بالمعاناة من الاكتئاب، واضطرابات المزاج، والقلق المزمن، وإجهاد ما بعد الصدمة، أو الفصام. لذلك يعتبر الوقوف على هذه الأمور خطوة ضرورية لتسهيل عملية استعادة الثقة في الآخرين إذا ما عالجتها كمُسبب رئيسي للمشكلة.
وأخيراً، تذكّر أن الناس ليسوا كاملين، ومن الطبيعي أن يرتكبوا الأخطاء، لذلك المفتاح هنا ليس تجنب الألم العاطفي، ولكن التعلُّم من أي تجارب مؤلمة بشكل إيجابي ومُثمر، وتعلُّم الدروس المستفادة من الأمر.