في عصر التواصل الرقمي الواسع وفورة تبادل المعلومات والأحاديث، أصبح من الضاغط أحياناً المواكبة بشكل مستمر. وفي بعض الأحيان، يكون الصخب متواصلاً لدرجة قد تُشتتنا عن الاهتمام بما هو مُهم حقاً، فنتوق إلى السلام والهدوء.
وبينما تطوِّر منصات التواصل الاجتماعي خصائصها لجذب انتباه المستخدمين بشكل متواصل، من خلال المحادثات الكتابية والصوتية والفيديو، بات من الضروري أخذ استراحات دورية من الصمت والهدوء التام لإعادة شحن الطاقة. وقد أثبتت الأبحاث والدراسات في علم النفس تأثير الصمت الفعّال على سلامة الإنسان الجسدية والنفسية، على حد سواء.
الصمت استراحة للجسم
ولأن جسم الإنسان هو عبارة عن ماكينة بالغة التعقيد. لذا فهو يحتاج، مثل أي ماكينة أخرى، إلى فترات من الراحة للصيانة. والراحة بالنسبة لنا لا تتوقف فقط عند قسط النوم اليومي، بل تتطلب أكثر من ذلك لتلبية احتياجاتنا الجسدية والعقلية والنفسية. ويتمثّل ذلك في قسط من الوقت الهادئ تماماً بشكل دوري، تتزايد مدّته مع تزايُد ضغوطات الحياة اليومية.
وتقول مجلة Psychology Today لعلم النفس، إن إمضاء فترات من الصمت والهدوء التام يومياً، يعزِّز جودة النوم ويقلّل من الأرق، ويقلل هرمونات التوتر والاكتئاب، ويحسّن من جودة الحياة بشكل عام. إذا يرتبط الضجيج المستمر للحياة اليومية، بزيادة أمراض القلب والأعصاب. لذلك شبّهت منظمة الصحة العالمية الضوضاء اليومية بـ"طاعون العصر الحديث".
الصمت لتقليل التوتر وترتيب الأولويات
ووجد بحث لمجلة Lifehack أنه بعد بقاء 100 شخص في خلوة من الهدوء التام لـ10 أيام متواصلة، قال المشاركون إنهم لاحظوا زيادة في قدرة حواسهم وإمكانيات التركيز، بعدما لاحظوا تحسُّناً ملحوظاً في مستويات القلق اليومي المعتاد. وكشفوا أنهم خلال هذا الوقت القصير تمكّنوا من التفكير في الأمور الشخصية بتعمُّق غير مسبوق.
ولفت البحث أنه عند ممارسة الصمت والهدوء التام لمدة 10 أيام، يتمكن الشخص من إيجاد مساحة ذهنية أكبر لاتخاذ القرارات تجاه الأمور التي يماطل في العادة من أجل اتخاذ موقف منها، سواء بسبب تعقيدها وصعوبتها أو بسبب الخوف من تحمُّل المسؤولية.
وبحسب دراسة أخرى أجريت عام 2006 بمجلة NCBI العلمية، عن أهمية الصمت والهدوء، فإن دقيقتين من الجلوس في صمت تام قادرتان على تقليل التوتر في الجسم من خلال خفض مستويات إفراز الأدرينالين و الكورتيزول في الدم.
وثبَت خلالها أن الصمت يخفف التوتر في الجسم والدماغ ويساعد على الاسترخاء أكثر من الاستماع إلى الموسيقى الهادئة، ويُعزى ذلك إلى التغيرات في ضغط الدم والدورة الدموية في الدماغ عندما نلتزم الهدوء.
الصمت لتحسين كفاءة المخ
ينخرط أغلبنا في مهام والتزامات يومية منذ ساعات الصباح الأولى وحتى آخر لحظة قبل النوم. ووسط ذلك الضجيج المستمر والمُشتت للذهن، يُصبح الإنسان أكثر عُرضة لنسيان أو تجاهل ما هو مهم ومحوريّ في حياته.
ويلفت موقع Psych Central لعلم النفس، إلى أننا بحاجة مستمرة لإمضاء قسط من الوقت الهادئ والصمت التام لاستعادة القدرة على التركيز وتحسين مستوى كفاءة العقل، وتحسين الذاكرة في تعاملها مع الأحداث وتقليل النسيان.
وقد كشفت دراسة أجرتها مجلة Pub Med العلمية، عام 2013، أن ساعتين كاملتين من الصمت التام يمكن أن تساعد في خلق خلايا جديدة في منطقة الحُصين في المُخ، وهي المنطقة الدماغية المرتبطة بالتعلُّم والتذكُّر وتخزين الخبرات العاطفية.
الصمت يساعدنا في التعافي
ويساعد خفض المُدخلات والمُخرجات الحسيّة التي نتعرّض لها يومياً، على توزيع طاقة الجسم على الأمور الأخرى الأكثر أهمية، مثل إمكانية الجسم في التعافي.
ومن المُعتاد في مراكز الرعاية ومؤسسات العلاج الطبي تخصيص غرف مُظلمة وهادئة للمرضى الذين يتعافون من الجراحة أو الأمراض الخطيرة أو الحالات المزمنة الأخرى التي تتطلب متابعة مستمرة. ويوضح موقع Psych Central أن الجسم البشري يحتاج إلى الراحة الكاملة لبدء عملية التعافي بشكل سليم، وهو ما يتم من خلال الجلوس في هدوء تام بشكل دوري.
وتتضمن إمكانية الجسم في التعافي الجانب العاطفي والروحي أيضاً. إذ اتضح أنه بإمكان "الجروح العاطفية" الناتجة عن المخاوف والقلق والاكتئاب، أن تستفيد بنفس القدر من الهدوء، وفقا للموقع. إذ يُعد الصمت والهدوء ضروريين لضمان الصحة والسلامة النفسية مثلما هما ضروريان للمرضى والمتعافين من الجراحات الخطيرة والأمراض المُزمنة.
وبينما يكره بعض الناس البيئة الصامتة، ويعادلونها بالمشاعر السلبية للوحدة والانعزال، قال الشاعر والروائي الأمريكي هرمان ملفيل عام 1852، في كتابه "الغموض": "كل الأشياء العميقة والمُهمة في الحياة، كانت متبوعة بالصمت".