من الطبيعي أن نثق ببعض أقربائنا وأصدقائنا، لكن الغريب هو ميلنا أحياناً إلى مشاركة الغرباء بالكثير من المعلومات والتفاصيل عن حياتنا الخاصة، على الرغم من احتمالية عدم مصادفتهم مرة أخرى في حياتنا!
نمط "الثقة في الغرباء" المنتشر بين الناس بمختلف ثقافاتهم أثار انتباه علماء النفس ودفعهم إلى البحث وراء دوافع مشاعرنا بالثقة والحميمية مع أناس لا نعرف عنهم شيئاً، لمجرد وجودنا معهم في غرفة انتظار واحدة مثلاً، محاولين فهم سبب الميل إلى مشاركتهم بأسرار قد لا نتشاركها في العادة حتى مع الأشخاص المقربين منّا.
في أبحاث أجراها عالم الاجتماع بجامعة هارفارد ماريو لويس سمول عام 2017 ووضعها في كتابه Someone to Talk To، جاءت الأسباب متباينةً بشكل كبير. فعلى الرغم من إقرار الغالبية العظمى من المشاركين في البحث أنهم يثقون فقط في دائرة معارفهم المقربة، كانت إجابتهم على سؤال "من آخر شخص شاركته بمخاوفك الداخلية؟" أناس عشوائيون قابلوهم بشكل عابر في متجر للتسوق، أو مصفف شعر، أو شخص جلسوا بقربه في إحدى غرف الانتظار.
المعارف غير الوطيدة مهمة أيضاً!
على الرغم من قاعدة الشبكات الاجتماعية التي يبنيها الإنسان خلال حياته، ووضعها أستاذ علم الاجتماع بجامعة ستانفورد مارك غرانوفيتر عام 1973، فإننا نعتمد على الروابط القوية المتمثلة في دائرتنا المقربة للحصول على الدعم، ونعتمد على الروابط الضعيفة المتمثلة في المعارف العابرين والعلاقات العامة للحصول على المعلومات. لكن بحث عالم الاجتماع سمول وجد أبعد من ذلك، حيث اتضح أن ما يقرب من نصف الأشخاص الذين نناقش معهم أمورنا الشخصية المهمة ليسوا ضمن "الدائرة المقربة" منا من الأساس، مشيراً إلى أننا نعتمد فعلاً على دعم دوائرنا الخاصة، لكننا أيضاً نستمد الدعم من علاقاتنا الضعيفة بالزملاء والمعارف العامة.
وتشير النتائج التي خلص إليها سمول إلى أنه بينما نستثمر في الأشخاص القريبين منا، يتعين علينا أيضاً بذل جهد لجعل أنفسنا متاحين للتعارف على الأناس العابرين أيضاً. ولفت الباحث إلى أن مشاعر الوحدة في ارتفاع مستمر في عصرنا الحالي، بسبب الاستخدام الكثيف لوسائل التواصل الاجتماعي ومعدلات العيش بشكل منفرد لأسباب العمل، ولاعتياد أغلبنا على النظر في هواتفنا عوضاً عن النظر للشخص المجاور لنا في الأماكن العامة.
وحذر أن الأشخاص الذين يمرون بمأزق حقيقي، ليسوا أولئك الذين لا يستطيعون تسمية ثلاثة أو أربعة أشخاص مقربين منهم، بل أولئك الذين لا يصادفون أي شخص بشكل منتظم على مدار أيامهم.
مشاعر بالانتماء والحميمية
في بحث آخر لعلماء النفس بجامعة كولومبيا عام 2013، اتضح أن إجراء المحادثات القصيرة مع النادل في المقهى أو البائع في أحد المحلات حسنت الحالة المزاجية للناس وزادت من شعورهم بالانتماء، وهي النتيجة التي توضح هذا الميل الشائع للبوح بالمشاعر والتفاصيل الخاصة لأناس لا تربطنا بهم أي معرفة مسبقة.
ففي ظل ظروف معينة عندما نجلس على متن قطار أو نعلق في مصعد مزدحم أو نتشارك سيارة أجرة قد نشعر بإحساس غريب بالألفة لمجرد وجودنا في مساحة شخصية متقاربة عادةً ما نسمح بها فقط للأصدقاء الحميمين؛ وهو ما يجلب شعوراً زائفاً بالحميمية يستدرجنا تدريجياً للتخلي عن حذرنا وتحفّظنا ونبدأ بالكشف عن أنفسنا للآخرين.
المعاملة بالمثل
حلقة المشاركة بالمشاعر والأسرار الخاصة تؤثر على الطرفين بنفس القدر كذلك، لأن المستمع يجد نفسه مدفوعاً إلى مشاركة معلومات خاصة عن نفسه أيضاً في نمط من المعاملات بالمثل مع الآخرين، وهو ما يجعل الحلقة تدور بين الطرفين بشكل مفرغ.
الأمر يحدث بهذا الشكل لأننا عندما يفعل شخص ما شيئاً خاصاً معنا، مثل السماح لنا بمعرفة معلومات خاصة عنه، نشعر بأننا مضطرون للرد بالمثل. ويمكن لقاعدة المعاملة بالمثل أن تدفع كلا الطرفين إلى الكشف عن المزيد والمزيد من المعلومات الأكثر خصوصية. بالطبع لا يكون الأمر إلزاميا، لكنه غالباً ما يحدث بشكل تدريجي وعفوي ما أن يبدأ الحديث في التعمّق.
راحة ملء الصفحة البيضاء
هناك فوائد أيضاً لـ"الصفحة البيضاء" التي نحظى بها عند الحديث مع شخص لا نعرفه؛ في حالة تشبه الراحة مع المعالج النفسي الذي تقوم بمشاركة كل شيء معه من الصفر، دون أن تعلم أي شيء عنه في المقابل.
ويقول عالم النفس الشهير سيجموند فرويد عن هذا الأمر، "يجب على المعالج أن يكون مبهماً لمرضاه مثل المرآة. يجب ألا يظهر لهم أي شيء سوى ما يظهرونه هم له"؛ لأنه على النقيض من ذلك، قد ينهال عليك الشخص المقرب بسلسلة من التطمينات أو الاقتراحات حول كيفية التعامل مع الأمور بحسن نية منه، وهي المشاركات التي لا تكون مفيدة في كثير من الأحيان، وتُمثل عبئاً فيما بعد على المشاعر.
محادثات عميقة
وفي مقابلة لسائق أجرة أمريكي مع صحيفة Pittsburgh Tribune-Review الأمريكية، قال الرجل البالغ من عمره 50 عاماً: "سمعت العديد من الاعترافات غاية في الخصوصية خلال السنوات العشر التي قضيتها كسائق أجرة.. مثلاً في رحلة إلى المطار مؤخراً، كشف لي الراكب الشاب أنه يعاني من الإدمان وهو متجه إلى مركز لإعادة التأهيل بعد أن شاهد أحد أصدقائه يموت بسبب تدهور حالته الصحية نتيجة إدمانه"، ويقول بيني إنه شعر بمسؤولية مشاركته بهذا السر، فأثنى على الراكب وشجعه على الصمود والتعافي وبدء حياة جديدة.
وتابع السائق أن ركابه من الأزواج يتجادلون أمامه في بعض الأحيان ويُشهدونه على ما وقع بينهم ويطلبون منه النصيحة. مضيفاً: "أنا مجرد سائق غريب عنهم ولا أعرف أي شخص يعرفونه، ولا أعرف أسمائهم، لذلك عادة ما يكونون أكثر استعداداً لمشاركة الأشياء معك"، واختتم أنه في كثير من الأحيان يريد الناس شخص يستمع إليهم فقط، حتى وإن لم يمتلك إجابات تساعدهم.