بينما يدور نزاع على المياه الإقليمية في البحر المتوسط بين كل من اليونان وتركيا وقبرص وإيطاليا وليبيا ومصر وغيرها، يطرح سؤال نفسه: من يملك المحيطات؟
فاقتسام مساحة الأراضى تم تاريخياً عن طريق الحرب والغزو والاستعمار.
حتى الأنهار، والجبال، والقارات تم اقتسامها كاملةً لتأسيس حدودٍ جغرافية حتى آخر سنتيمتر.
لكن المحيطات لا تمتلك معالم سطحية ظاهرة، فما هي إلا مساحات مالحة شاسعة.
كما أن المحيطات متصلةٌ بعضها ببعض، فالمحيطات الخمسة في العالم هي تقنياً محيطٌ واحد ضخم يغطي 71% من مساحة الكوكب.
من يملك المحيطات؟
كل هذا يجعل تقسيم المحيطات أمراً صعباً، لذا يمكن الاستنتاج إذاً أننا نحن من نملك المحيطات!
أنت و6.6 مليار شخص يتزاحمون في هذه اللحظة على وجه الأرض. فالمحيط ملكٌ لنا جميعاً، وليس ملكاً لأحد في الوقت نفسه. إنه فعلاً لغزٌ محير.
على مر القرون، بدايةً من عصر استكشاف الأرض عندما اختُرعت سفن بمقدورها حمل الإنسان حول العالم، اتفقت حكومات العالم الممثِّلة لأمثالنا، أي مُلاك المحيطات، ألا تكون المحيطات ملكاً لأحد.
يشار إلى هذا الاتفاق غير الرسمي باسم "مبدأ حرية البحار"، ويشار إلى هذا المبدأ أيضاً في زهوٍ أكثر باسم "قانون البحار"، بحسب ما نشره موقع How Stuff Works.
يمنح هذا المبدأ حقوقاً حصرية للتصرف في المسطحات المائية على امتداد 4.8 كيلومتراً، من السواحل للدول المطلة عليها.
تُمنح هذه المساحة للدول الساحلية باعتبارها امتداداً لحدود تلك الدول الأرضية، وبهذا فإنه عندما تدخل أي دولةٍ أجنبية في هذه الحدود المائية في حالة حربٍ أو دون الحصول على إذن، يعتبر تعدياً وانتهاكاً لسيادة الدولة على أرضها.
أما القسط الأغلب الباقي من البحار والمحيطات فهو مفتوحٌ للمشاركة بين كل دول العالم -حتى غير المطل على البحار منها- للنشاط التجاري.
وبما أن المحيطات تعد مياهاً دولية، فإن مهاجمة دولةٍ لسفينة أخرى في المياه المفتوحة يعتبر كذلك من أعمال الحرب.
دخلت الولايات المتحدة في حربين على خلفية هذا البند: أولاً حرب عام 1812، وثانياً الحرب العالمية الأولى.
اتخذت الولايات المتحدة مبدأ حرية البحار بجدية شديدة ودافعت عنه بجيشها. لكن الولايات المتحدة أيضاً هي من قوضت ذلك المبدأ عندما مدَّت مياهها الإقليمية عام 1945 من ثلاثة نحو 5 كيلومترات إلى 322 كيلومتراً، حتى كادت تصل إلى حدود الرف القاري، بحسب موقع Water Encyclopedia.
وبهذا، دشنت الولايات المتحدة حملة شرسة بين دول العالم الساحلية للاستيلاء على سيادة البحار، وتوترت العلاقات بين الدول التي بدأت حدودها البحرية الموسعة بالتداخل.
يكمن سبب تغير منظور ملكية محيطات العالم، مثل كثير من الأشياء، بالرغبة في جني المال.
من تهمه ملكية المحيطات؟
سرعان ما حلَّ عصر الاستعمار بعد عصر الاستكشاف. أبحرت الأمم الأوروبية للأراضي القديمة والجديدة وأعلنت أنها امتداداتٌ لأراضيها.
وفي هذه الأثناء، دخلت هذه الأمم حروباً مع دول أخرى في نزاعٍ على الأرض، وارتكبت جرائم إبادةٍ جماعية للشعوب الأصلية الساكنة تلك الأراضي.
قدمت المواد الخام المكتشفة في هذه المناطق للدول المستعمرة ثروات بدا أنه لا آخر لها. لكن استغلال المواد الخام على مدار آلاف السنوات كان قد علَّم الأروبيين أن أي شيءٍ يوجد على الأرض سينتهى بالنفاد.
استغرق امتداد هذا المفهوم الاستغلالي إلى البحار أيضاً وقتاً طويلاً. أبحر البشر حول العالم كاملاً عام 1522 ميلادياً. ونظراً إلى الحجم المهول لمحيطات العالم وعجزنا التكنولوجي عن استخراج المواد الموجودة فيها وتحتها، سادت فكرة بأن البشر غير قادرين على استهلاك موارد المحيطات.
لكن هذه الفكرة تغيرت في منتصف القرن العشرين.
أصبح اكتشاف واستخراج النفط عمليةً أعقد، وتحركت الدول في سبيل تأمين أكبر كمية من النفط، والغاز الطبيعي، والمعادن التي يمكن الحصول عليها من المحيطات.
ونظراً إلى أنه لم توجد معاهداتٌ ولا قوانين دولية رسمية تخص المحيطات، لم يكن بيد الحكومات إبداء أي مقاومةٍ شرعية في وجه تجاوزات الأمم الأخرى.
عندئذٍ صارت المحيطات، التي كانت قَبلاً ملكيةً مشتركة للجميع طوال قرون، تُستنزف بلا نمطٍ أو خطة متسقة.
والمثير للسخرية أن النفط الذي استُخرج من محيطات العالم أصبح هو ما يلوثها اليوم.
خيرات المحيط من نفط وأسماك
من حينٍ لآخر، تتسرب محتويات السفن الناقلة لشحنات البترول إلى المحيط. وتلك السفن التي تبحر من النقطة أ إلى النقطة ب (حاملةً شحنة نفطٍ أو غيره) تخلف وراءها انبعاثات ناجمة عن احتراق الديزل.
وبما أن المحيطات تعد ملكية مشتركة، فإن تجمعات الأسماك الموجودة في هذه المناطق تخضع لهذه الملكية المشتركة أيضاً.
يحق لشركات الصيد التجاري من أي دولةٍ إرسال سفن صيدٍ إلى المناطق الغنية بالأسماك في المياه الدولية.
تستنزف هذه المصلحة المشتركة بين الدول مواطن الأسماك تلك بوتيرةٍ أسرع، وتخلُّ حركة السفن الكثيفة في هذه المناطق بالنظام البيئي فيها بدرجةٍ أكبر.
وتطورت التكنولوجيا المعنية باستغلال موارد المحيطات، بسرعةٍ مهولة. ففي عام 1954، كان إنتاج النفط البحري أقل من مليون طن سنوياً. بحلول نهاية ستينيات القرن الماضي، كان يُستخرج 400 مليون طن سنوياً، بحسب الأمم المتحدة.
إن الأثر والقيمة الاقتصادية للمحيطات، الممثلة في الأنشطة التجارية الممارَسة فيها مثل الصيد، والشحن، والتعدين، ضخمة.
في عام 2004، شهدت الولايات المتحدة وحدها 63 مليار دولار من مدفوعات الأجور للأنشطة المتعلقة بالمحيطات، بحسب برنامح اقتصاديات المحيطات الوطني الأمريكي.
لكن للأموال التي جناها العالم من المحيطات أثرٌ ضارٌّ أيضاً، إذ صار واضحاً أن البشر يسممون الحياة تحت سطح البحر.
وفي عام 1967، درست الأمم المتحدة لأول مرة، فكرة التدخل من أجل إرساء معاهدةٍ دولية رسمية، وهو أول اتفاقٍ دولي يخص المحيطات يشهده العالم منذ 300 عام.
الأمم المتحدة وسباق استغلال البحار
كان المبعوث المالطي للأمم المتحدة أول من تطرق إلى الموضوع، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1967؛ كي يحث أعضاء الأمم المتحدة على استخدام نفوذهم الجمعي للتوصل إلى اتفاقٍ حول الاستغلال العادل والمسؤول لمحيطات العالم.
استغرق الأمر من المنظمة 15 عاماً، لكن أخيراً عُقد اتفاقٌ بعد مؤتمر استمر على مدار تسعة أعوام وانتهى بتوقيع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
اكتملت صياغة المعاهدة في عام 1982 وبدأ العمل بها عام 1994. صاغت المعاهدة في قوانين عاداتٍ بَحرية مؤسَّسة بالفعل، مثل قانون البحار.
ظلت المياه الدولية كما هي، بصفتها: "الميراث المشترك للبشرية"، ووضعت قيودٌ على امتداد المياه الساحلية ومساحة قاع البحر التي يحق لأي دولةٍ إعلان سيادتها عليها.
وتحددت المياه الإقليمية، أي الحدود المائية المحيطة بساحل الدولة والتي تعد امتداداً لحدود أرضها، بامتداد 22.2 كيلومتر.
وضع ميثاق الأمم المتحدة أيضاً تعريفاتٍ واضحة لأنواع المسطحات المائية. على سبيل المثال، فإن المضيق هو ما يفصل بين رقعتي أرض (غالباً ما تعودان لدولتين مختلفتين) ويصل ما بين مسطحين مائيين أكبر.
عادةً ما يكون عرض المضيق أصغر من امتداد المياه الإقليمية المعرفة بمسافة 12 ميلاً بحرياً.
لكن نظراً إلى القيمة المهولة التي تحملها المضايق في حركة الشحن والدفاع الحربي، إذ تقدم معبراً بين الأراضي، اعتُبرت المضايق تابعة للمياه الدولية بشكلٍ غير رسمي، رغم ملاصقتها أراضي الدول التي تمر بها. اعترفت الأمم المتحدة رسمياً بأن المضايق تابعة للمياه الدولية.
وتضمنت التشريعات الأخرى التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة، حظراً لاختبارات الأسلحة النووية في المياه الدولية، وتأسيس لجنةٍ لحماية بيئة المحيطات، وربما أهمها كان إرساء مفهوم المناطق الاقتصادية الخالصة.
المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية
إن المياه الإقليمية امتدادٌ لقوانين الدولة وحقها في الدفاع عن نفسها، أما المناطق الاقتصادية الخالصة فهي امتدادٌ لحق الدولة في استخراج الموارد البحرية.
تمتد حدود المناطق الاقتصادية الخالصة لأبعد بكثير من حدود المياه الإقليمية، إذ تمتد حتى 322 كيلومتراً من ساحل الدولة المعنية، وتقع جميع الموارد العضوية (الحية) أو المعدنية المستخرجة من هذه المياه ضمن الصلاحية الحصرية للدولة الساحلية المالكة لها.
ومع ذلك، فإن المناطق الاقتصادية الخالصة قد خلقت في حد ذاتها تعارضاتٍ منذ إرسائها.
كانت الولايات المتحدة، وغيرها من الدول التي تحركت في سباق الاستيلاء على موارد البحار ما بعد الحرب العالمية الثانية، قد عرفت حدود مياهها الإقليمية حتى الرف القاري، وهي المنطقة الضحلة نسبياً (إذ يبلغ عمقها نحو 200 متر) التي تمتد من الساحل حتى المنحدر القاري (بداية زيادة عمق مياه المحيط).
قلصت القيود المفروضة بموجب قانون المناطق الاقتصادية الخالصة، من حدود تلك الدول.
تنازلت الأمم المتحدة عندئذٍ بأن سمحت للدول التي تمتلك سواحلها رفاً قارياً أوسع، بمد المناطق الاقتصادية الخالصة التابعة لها حتى 563 كيلومتراً من الساحل، بشرط أن تتقدم هذه الدول بما يثبت مساحة الرف القاري الممتد على سواحلها.
ومن ذاك القرار، تحركت الدول المطلة على المحيطات للإتيان بأدلة بيولوجية تسمح بمد مناطقها الاقتصادية البحرية من 322 إلى 563 كيلومتراً.
وفي المحيط القطبي، يدور سباقٌ لوضع اليد على موارد المحيط الآن، مثل ذلك الذي بدأته الولايات المتحدة في 1945، بين الولايات المتحدة، وكندا، وجرينلاند، والدنمارك، والنرويج، وروسيا.
تسارع كلٌ من هذه الدول لفرض سيادتها على أرض المحيط القطبي الذي يقدر أن 25% من مخزون النفط والغاز الطبيعي الذي لم يمس بعد في الأرض موجودٌ تحت قاعه، بحسب موقع Geology.
جاء الاهتمام المفاجئ بالاحتياطي القطبي نتيجةً لذوبان الجليد القطبي، وهو ما سببه التغير المناخي. وفيما يذوب الجليد القطبي، يصبح الوصول للمعادن المخبأة تحته أسهل وأرخص. لكن هذا الجليد الذائب سيكون له أثر آخر، وهو أثرٌ سيطول سواحل البلاد.
سوف يؤدي ارتفاع منسوب البحار إلى تراجع السواحل؛ ومن ثم تقلص الحدود السيادية لتلك الدول بعيداً عن القطب الشمالي وموارده الغنية.
وعندما يحدث هذا، ربما يحين الوقت لميثاقٍ جديد من الأمم المتحدة، إذ كشفت الدول أنه حالما يخص الأمر استغلال الموارد الطبيعية للمحيطات، فإن الاحتيال على القوانين سياسة عادلة بالنسبة لهم.