ماذا لو كان كورونا شراً أريد به خير؟
سؤال يستوقفنا ونحن أمام تهاوي العالم أمام فيروس صيني المنشأ، عالمي الانتشار. . هذه "الجائحة" التي اخترقت الحدود الجغرافية، السياسية، العرقية والدينية لابد وأن تخترق حتى ثوابتنا الثقافية والاجتماعية، بل وقد اخترقت امتدادات الزمن فأصبح أمسنا القريب ماضياً غابراً وأضحت معالم مستقبلنا مجهولة. التغت كل استشرافات المستقبل وأصبح علمنا فجأة لا زمانياً. أضحى سؤال متى سنعود لحياتنا العادية؟ سؤالاً تعجيزياً ومعضلة طبية. فماذا صنعت بالإنسان ظاهرة كورونا؟
كنت قبل أسابيع مضت، قد قرأت لدوستويفسكي ما مضمونه أن الإنسان عندما يمرض يقترب أكثر من العالم الآخر وتتهاوى المسافات بينه وبين السماء. استحضرت اليوم كل ما تعلمته من روايات هذا المفكر الروسي وأنا أطالع في كل مرة ما يصلني دون انقطاع من فيديوهات، صور ومنشورات على تطبيق الواتساب في هاتفي وعلى صفحات فيسبوك ومجموعاته. تذكرت رواية القبو والجريمة والعقاب. علمنا دوستويفسكي أن مخبوءات النفس تعريها الأزمات ليكون الألم موقظاً لكل ما تخفيه الطبيعة البشرية. هكذا استوقفتني ردات فعلنا نحن البشر العاديين أمام هذا الاعتلال الصحي الذي أجده سرعان ما تحول إلى وباء نفسي اجتماعي وإعلامي. تستنفرنا هذه التمظهرات لردود فعلنا تجاه حالة الوباء وتستدعي منا مقاربات أنطولوجية، سيكولوجية نفسية وبكل تأكيد اجتماعية حتى نقف عند درجات الأنا وفوضوية النحن في زمن الكورونا.
لهذا الغرض قد يجوز أن نصنف مواقف الناس من كورونا في اتجاهات أربعة:
1- خطابات لاهوتية واعظة.
2- دعاوى المؤامرة والحرب الاقتصادية.
3- مبشرو الوطنية التعاون التضامن والإنسانية الكونية.
4- ولعل أخطرهم أنبياء فيسبوك ويوتيوب ممن سمحت لهم المساواة الفوضوية
لن أقف كثيراً عند تصورات العقوبة الإلهية والانتقام الإلهي من الصين أو من تذكير الله لعباده الغافلين بضرورة العودة إلى جادة الحق والتقوى. فنحن في أوطاننا العربية قد تعودنا أن يخوض الله عنا حرباً بالكفالة ضد أعدائنا. نتسلح بالدعاء ونستكين لـ40 دعوة علها تكون ساعة استجابة. حفظنا أدعية عن ظهر قلب فتحولت صلواتنا إلى استظهار ميكانيكي لشذرات دينية دون خشوع. قد تذكرنا أزمة كورونا بأن الله لا يعبد في المساجد فقط، فها هي ذي قد أغلقت لدواعي الأمن الصحي الجماعي وهو أولى. فهل نتوقف عن الصلوات؟ أذان يرفع ومساجد فارغة علناً نعمر بيوتنا بسكينة الإيمان.
ستعلمنا أزمة كورونا بكل تأكيد الانتقال من طقوسية المعتقد إلى وجدانيته وجوانيته فنتذكر أن الإيمان شأن خاص وفردي قبل أن يكون عاماً وجماعياً. إنه عمودي العلاقة بالتأكيد وليس أفقياً. هو ليس ظهوراً جماعياً أو انتماءً ثقافيًا. إنه اعتقاد وفعل.
كورونا إذن تجربة روحية إيمانية.
لن أطيل كذلك في الحديث عن المؤامرة الرأسمالية المتغولة وصراع الأقطاب الاقتصادية، فقد علمنا التاريخ أن في حرب المال والثورة تغيب الأخلاق. ولأن الإنسان أكثر الحيوانات ضراوة كما قال العزيز دوستويفسكي، منكراً وبشدة ذلك التقابل بين الإنسان والحيوان على اعتبار أن في ذلك ظلماً للحيوان. فالإنسان شرير بالقوة وبالفعل. أما الحيوان فمفترس بالطبيعة. لذلك لن نستبعد الاستراتيجيات القذرة لحرب المال والسلطة. لنتساءل مع كورونا إلى أين يقودنا إنسان ما بعد-الإنسانية؟ ذلك الكائن المحكوم بمنطقي الاستهلاك والتبذير وأوهام الخلود. ذلك الذي كانت ردة فعله الأولى تخزين ما يزيد عن حاجته في سباته الإجباري .
إنه الحالم بجسم لا يمرض ولا يشيخ قهره فيروس رشح .
أهي حرب تجارية كما يقولون أم انتقاء طبيعي؟
الواقع أننا جميعنا صعقنا بصور شوارع الصين الخاوية وساحات روما الفارغة إلا من حمامها. هي الأرض تتخلص منا؟ هدوء ثقيل يسود شوارع الحي، أسواقه، محلاته وحتى رياض الأطفال. وكأن مدننا قد خلت من ضجيج قاطنيها. الأرض ترتاح بكل تأكيد.
لتكون كورونا أيضاً تجربة اقتصادية لمراجعة أساليب عيشنا الموغلة في الاستهلاكية وإعادة تأهيل بيئي لننصت للأرض المتأوهة. سيكون ربيع 2020 ربيعاً لم تشهده الأرض منذ عقود خلت. ربيع دون ضجيج البشر.
حتى مبشرو الوطنية والإنسانية لا يأتون بجديد. فالحس الوطني والإنساني ينبغي أن يحضرنا في أوقات الرخاء قبل أوقات الشدة. وأنت ترمي قمامتك في الشارع، تذكر عامل النظافة. وأن تشتري ما يزيد عن حاجتك، تذكر من لا يملك شيئاً. وأن تتفاخر بهاتفك الجديد، تذكر من لم تصل قريته بعد الكهرباء. وأنت تستعرض صور سفرياتك على فيسبوك، تذكر العالقين في بلدان الحصار والحرب. وأنت تهرول لتقيس حرارتك، تغسل يديك لتلبس كمامة خوفاً من أعراض كورونا، تذكر طبيباً اختار العيش وسط الميكروبات والفيروسات كل يوم. وأنت تتأسف لتعليق الدراسة بسبب كورونا، تذكر من علقت الفاقة والحاجة أحلام دراسته. وأنت تتذمر من صراخ أبنائك وفوضى غرفهم، تذكر معلميهم، صبرهم وتفانيهم… ستعلمنا كورونا أننا لم نخلق للشارع أو للعمل بل للبيت وللعائلة. لقد سمحت لنا أن نعيد اكتشاف أبنائنا الذين تخلينا عنهم للمدارس، للمذاكرة وللنوادي. بل وحتى لإدمانهم الإلكتروني. لا ريب ستعلمنا كورونا إعادة تشكيل علاقاتنا الاجتماعية وتنقلنا من الوجود الافتراضي الذي أغرقتنا فيه وسائط التواصل الاجتماعي إلى الوجود مع الفعلي. وجود مع الأزواج والأبناء نحن من استلبتنا انشغالاتنا، هواتفنا وسباقنا الملهوف كآباء حتى يكون أولادنا أفضل من أبناء الجيران. فتناسينا أن أطفالنا هم أطفال وليسوا أرصدة بشرية ومشاريع ربحية. نحن كائنات الظهور والشوفينية ألزمتنا كورونا بأن نستعيد ذواتنا، علاقاتنا، أطفالنا وأن نتحرر من تيار اليومي الجارف.
لأن كورونا تجربة أنطولوجية. إنها عودة الأنا لأناه.
ما استوقفني في أزمة كورونا هو بالأساس الحالة الاجتماعية الباثولوجية التي ولدتها كورونا. إنها فوضى النحن أو لنقل "الجمهور". هنا لا بد أن نعود لسيكولوجيا الجماهير مع Gustave Le Bon رغم ما نؤاخذه عليه من نزعات عنصرية وتعال عرقي، وآخرين من علماء نفس واجتماع، لنفهم حمى العالم الافتراضي. فجأة ظهر لنا علماء لم نسمع بهم ،اشباه أطباء لم نعرفهم ،محققون بوليسيون يكشفون عن مؤامرة دنيئة. وأدناهم عامة لا هم بأهل علم ولا معرفة يسوقون لزيف وهلع. يهيجون الجماهير ويجيشونها ضد المجهول وضد العقل. تخدمهم في ذلك حالة "العدوى النفسية" التي تولدها الخطابات الملتهبة. ذلك أن الإنسان في لحظات ضعفه يطرق كل الأبواب حتى أبواب الدجل ويفقد معها كل عقلانية في الفعل. والحال أن أزمة كورونا كشفت بأن ديمقراطية العالم الافتراضية غوغائية. إنها تنميط فكري باتجاه نكوصي نحو الجهل والخرافة.
ومهما يكن ينبغي أن نتساءل عن دور الرقابة والقانون. قد يعترض البعض متحججين بأن الدولة ينبغي أن ترفع يدها عن حق التعبير. لكن ماذا عن فوضى التعبير ونحن نعلم مع Le Bon بأن الجماهير في لحظات هلعها وأزمتها انفعالية لا يحكمها عقل أو منطق. ألم يقل Le Bon بأن الجماهير قابلة للتحريض وتخضع بسهولة للدعاية التي تغذي الهلع الجماعي؟. صحيح أن فيسبوك خدم مشاريع إصلاحية وثورية لكنه وبالمقابل يسهم وبكل جدية في صناعة التفاهة والغباء. فولوجيته المباحة تحوله في أحايين كثيرة إلى "حلقة" للفرجة والسيرك.
لتكون كورونا فرصة لمراجعات قانونية وسوسيولوجية.
وفي الختام يمكن تلخيص كل ما قيل بضرورة مساءلة أحلام ما بعد الإنسانية، حرية العالم الافتراضي اللامسؤولة، لاإنسانية الإنسان، التغاء أواصر التربية والاكتفاء بعلاقات الإنجاب البيولوجية، الجوار الوجودي، قوة الجمهور، تدين ما بعد-الإنسانية.. حتى نقف عند حقيقة لماذا وصلنا الى كورونا؟ ولماذا أعجزنا كورونا كذوات وكجموع؟
وإن كان كورونا قد أعادنا إلى حنين الإنسانية فاضحاً زيف وتفاهة المادية.
فشكراً كورونا.
كوثر فاتح هي أستاذة فلسفة ثانوي، حاصلة على إجازة في الأدب الفرنسي، وماجستير في فلسفات التأويل، ودكتوراه في الفلسفة حول أزمة الإنسان في الحداثة وما بعد الحداثة. لي مقالات عديدة حول تطوير التعليم، وأخرى في طور النشر في مجلتين ورقيتين
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.