"المقبرة العملاقة"، هكذا وصف رئيس الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة مدينة حلب السورية قبيل سقوطها في يد النظام السوري.
ففي ديسمبر/كانون الأول عام 2016، كان الحصار الوحشي يقترب من نهايته الدموية داخل شرقي حلب. وكانت آخر القنابل تتساقط على شوارع المدينة المُحطّمة، في حين كان القناصة يختارون آخر ضحاياهم. بينما أعَدّ المدنيون المُحاصرون آخر وجباتهم الشحيحة -إذا كان لديهم طعامٌ من الأساس- داخل المدينة التي تشبّثوا بها لأربع سنواتٍ مُؤلمة.
تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية عرض المشاهد الأخيرة التي عاشها بعض مما غادروا حلب قبل سقوطها بيد النظام، وتجاربهم بعد رحيلهم عن مدينتهم.
هل نراها مرة أخرى؟
خرج العديدون من حلب بقلوب تملأها الحسرة، رغم مغادرتهم في نهاية المطاف. وهم يعلمون أنّهم قد لا يرون مدينتهم الحبيبة مرةً أخرى، وتركوا أحلامهم بسوريا أخرى مدفونة تحت حُطام منازلها المقصوفة.
إذ كانت حلب آخر مركزٍ حضريٍّ كبير تحت سيطرة المُعارضة، وبسقوطها ماتت آمال الإطاحة بالرئيس بشار الأسد فعلياً، رغم أنَّ الحرب استمرت.
وفي ذروة الحصار، حين ركّزت غالبية التقارير على القتال كان المدنيون هُم غالبية المُحاصرين.
وكانت الطُّرق الداخلية والخارجية مقطوعة، لكنّ الكهرباء والإنترنت ظلَّا مُتوافرَين بشكلٍ مُتقطّع، مما يعني أنّ مكالمات Skype كانت لا تزال مُتاحة، مما سمح لصحيفة الغارديان بأن ينقلوا شهادات عدد من سكان المدينة مُباشرةً إلى قُرّائهم.
الصدمة الجديدة
مرّت ثلاث سنوات منذ ذكرى سقوط حلب، وصار الأشخاص الذين تحدّث قراء الصحيفة إليهم مُشتّتين في كافة أنحاء سوريا وخارجها، وأحدهم بات مفقوداً الآن.
وتبيّن أنّ الإجلاء عن المدينة مثّل نهايةً لتلك الصدمة بالنسبة لهم جميعاً، وبداية صدمةٍ أخرى. إذ كافحوا من أجل العثور على وظيفة، والتكيُّف مع العالم دون قنابل وموت دائم. وتفرّق الأصدقاء والأعداء، وتحطّمت أحلامهم المُتعلّقة بسوريا والمدينة، فيما تهشّم إحساسهم بالهدف بين ليلةٍ وضُحاها.
والآن، بعد أن اشتد القصف مرةً أخرى على إدلب -الخاضعة لسيطرة المُعارضة- باتوا يرون مأساتهم الخاصة تتكرّر آلاف المرات. وصارت قصص نفيهم وهروبهم -التي تُروى في الأسفل بكلماتهم- بمثابة نماذج مُصغّرة لما أصاب ثورة حلب وأحلامها.
ومن أجل أن تعرف المزيد عن حلب والحرب السورية، وما حدث لبعض المهجرين من المدينة، منهم من سبق للغارديان تتبع قصصهم؛ فسيكون هناك عرض خاص لفيلم "إلى سما For Sama" المُرشّح لجائزة أوسكار، تتبعه فقرة أسئلةٍ وأجوبة مع صانعة الفيلم وعد الكاتب.
ووعد الكاتب انتقلت إلى حلب من أجل الدراسة، ثم انضمت إلى الثورة، وعثرت على الحب، وأنجبت طفلتها. وفي جوهره يطرح الفيلم سؤالاً على الطفلة سما: "هل ستلومينني على البقاء هنا؟ أم ستلومينني على الرحيل؟".
والآن بعد نحو ثلاثة من سقوط حلب تتبّعت صحيفة الغارديان مصائر عدد من أبناء المدينة الذين تحدثوا لقراء للصحيفة في الأيام الأخيرة للحصار، وكيف يواجهون المخاوف الجديدة، وكيف يعيشون من دون حلب، وكيف يخشون أن تكرر المأساة من جديد.
المُعلِّمة عفراء هاشم.. كيف تواصل هذه المرأة المجنونة الدخول لمدينتها الأثيرة؟
تعيش الآن في غازي عنتاب بتركيا، مع زوجها وأطفالها الثلاثة.
ولا تزال تعمل داخل سوريا في مجال حماية الأطفال والتصدّي للعنف ضد المرأة. وصار منزلهم مزاراً لحلب والثورة السورية والأصدقاء الذين فقدوهم. وتظهر في الفيلم الوثائقي المُرشّح لجائزة أوسكار عن حلب، إلى سما.
حين جاء قرار الإخلاء وضعنا كل شيءٍ في سيارتنا، وصرنا جاهزين للمغادرة، لكنّهم قصفوا حيّنا مرةً أخرى وأصابوا السيارة. فاحترق كل شيء، مُذكّراتي، وصوري، وكافة مُمتلكاتي. وبدا الأمر وكأنّ النظام يقول لي: "سنُدمِّر كل شيء، لن تستطيعي حتى الخروج بذكرياتك من حلب".
وطوال تلك الفترة كُنت فقط أبكي وأنا أُفكّر: كيف يُمكن أن أُغادر مدينتي؟ ظللت هنا لأربع سنوات تحت القصف، صامدةً، لأُخبِرَ العالم أنّ لنا الحق في الحرية والديمقراطية وفي أحلامنا.
وجمعت التُراب من قبور أصدقائي، لأصحبه معي داخل جرّة. وطلبت منهم أن يُسامحوني، لقد فشلنا في إتمام المهمة.
وبعد أن غادرنا حاولنا الوصول إلى تركيا مع المُهرّبين، وفشلنا في أربع مناسبات، إذ كانت الأمطار غزيرة، وتساقطت الثلوج، وكانت الجبال خطيرةً علينا في وجود الأطفال، ولكن لم يكُن أمامنا سبيلٌ آخر.
ووصلنا في نهاية المطاف إلى منزل شقيقتي ذات صباحٍ في السادسة فجراً، فطرقت الباب، وصُدِمَت والدتي حين فتحته، لتسقط مغشياً عليها، وبكينا كثيراً.
أسوأ شيءٍ في النزوح هو أنّك لا تكتفي بخسارة مدينتك، بل تفقد أصدقاءك أيضاً. وربما تستطيع رؤيتنا جميعاً في الفيلم، لكنّ كلاً منّا سلك مساره الخاص.
فالبعض في أوروبا، أو أجزاء أخرى من تركيا، أو جنوب إدلب، أو غرب حلب. نحن مُنفصلون، ولا نستطيع حماية بعضنا البعض. وظللت دون وظيفةٍ لعامٍ كامل، ولم تُساعدني كافة المناصب التي شغلتها في سوريا، وكل أعمالي الجيّدة، في العثور على وظيفةٍ جديدة. وأرسلت أكثر من 40 رسالةً بالبريد الإلكتروني بحثاً عن فرصةٍ في أي منصب، حتى وإن كان تطوّعياً. ولكن أحداً لم يرُدّ على رسائلي.
لم أكن أعرف كيف أكتب سيرتي الذاتية، إذ كان اسمي هو سيرتي الذاتية داخل حلب، لم أستخدم حتى البريد الإلكتروني، بل تطبيق Whatsapp فقط. وبدا وكأنّني آتيةٌ من عالمٍ آخر.
ولكنّني أستطيع الآن زيارة سوريا بانتظام، من خلال وظيفتي الحالية، وحين عُدت إلى أرض الوطن والتقيت بعض الأصدقاء القُدامى بدأتُ أستعيد شخصيتي بوصفي امرأةً طموحة ومُتحمّسة.
أنا أعمل في مشاريع حماية الأطفال والعنف الجنساني، في عفرين وريف حلب. ويقول كافة زملائي: "أنتِ امرأةٌ مجنونة، لا نستطيع الذهاب إلى تلك الأماكن الخطِرة". ولكنّني لا أخشى الموت، إذ ربما يُنهي الموت مُعاناتي.
وأشعر بالغيرة حين أعلم أنّ شخصاً آخر يعيش في منزلي داخل حلب، إذ استولى عليه النظام، وأشعر وكأنّني حبيبةٌ تعلم أنّ حبيبها ينام مع امرأةٍ أُخرى، نفس الشعور تماماً.
زين الشام.. عاملة الإغاثة التي تستغرب تصرفات الشرطة الكندية
تعيش الآن في كندا، حيث طلبت اللجوء بعد رحلة عملٍ إلى الولايات المتحدة. وتُعالَج الآن من الصدمة نتيجة الوقت الذي قضته داخل حلب، والذي قبعت خلاله داخل سجون الأسد لـ14 شهراً.
وتعمل حالياً في شركة أزياء عبر البريد، ولا تزال عازمةً على إنهاء تعليمها والعمل مُعلّمةً حين تصير في حالةٍ جيدة.
أتذكّر الليلة الأخيرة في حلب، وأنا أسير بين الشوارع المُحطّمة، وأبكي. وبدا وكأن المدينة كانت تبكي أيضاً، وشعرت أنّني لن أعود إلى هناك مُجدّداً، ولا يزال نفس الشعور يُساورني الآن.
عبرت إلى تركيا، وكُنت محظوظةً حين حصلت على تصريح العبور بفضل عملي. ولكن حين وصلت إلى هناك كانت الأمور صعبةً للغاية، كُنت قد قضيت وقتاً طويلاً في الظلام، ثم فجأةً صرت أتجوّل وسط مكانٍ به كهرباء ومياه ساخنة في كل مكان. وذهبت لزيارة شقيقتي، فصنعت لي الكثير من الطعام الشهي، ولكنّني لم أستطع أن أتناول سوى ملعقتين فقط، إذ كُنت أُفكّر في الناس الذين لا يملكون شيئاً.
وسافرت إلى الولايات المتحدة من أجل الحديث في حدثين، وطلب مني أصدقائي البقاء، قائلين: "لا تفقدي هذه الفرصة، يجب أن تُفكّري في حياتك، لم تعُد هناك حلب".
وكان ترامب قد انتُخِبَ رئيساً لتوّه، وكانت لديه بعض القرارات الصعبة ضد اللاجئين، ولم أشعر بالأمان هناك، لذا أتيتُ إلى كندا.
أحياناً لا أُصدّق أنّني قضيت أكثر من عامين هنا، إذ يبدو الأمر وكأنّني استيقظت من النوم للتو، وأتساءل عمّا أفعله هنا.
تعلّمت الفرنسية، وبدأت العمل في شركة أزياء، داخل مركز التوزيع لمُعالجة الطلبات. والأمر جيدٌ حتى الآن، ولكنّني حزينةٌ دائماً لأنّني أشعر أنّني عديمة الجدوى وأفعل أشياءً لنفسي فقط.
وعائلتي مُشتّتةٌ بين ثلاث دولٍ مُختلفة، ولا أستطيع حتى السفر لزيارتهم. فشقيقتي في فرنسا، ووالداي في تركيا مع شقيقي، في حين لا يزال شقيقي الثالث عالقاً في سوريا مع أسرته. وأُصيبت والدتي بأزمةٍ قلبية ونُقِلَت إلى المستشفى في غيبوبة قبل بضعة أشهر. فذهبت إلى محاميتي لأقول: "أُريد الذهاب إليها، حتى وإن لم أستطع العودة". ولكنها قالت إنّ ذلك مُستحيل، وإنّ السلطات التركية لن تمنحني تأشيرة دخول لأنّني لا أملك إقامةً في كندا حتى الآن.
وهذا هو أصعب أوقات السنة بالنسبة لي، لأنّ نوفمبر/تشرين الثاني هو الشهر الذي اعتُقِلتُ فيه، وديسمبر/كانون الأول هو الشهر الذي اضطررت فيه لمغادرة مدينتي. والذكريات، واستحضار مشاهد الماضي، صارت تُؤثِّر الآن على عملي. لذا بدأت في تلقّي العلاج [للصحة العقلية] في كندا، ولكنّني لا أزال في خطواتي الأولى. وأنا أُعاني من الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، وأُعاني الكثير من الصدمات.
حين أتيتُ إلى هنا أول الأمر كانت هناك تظاهرات، وشاركت فيها ونظمت الكثير منها. وكان غريباً في البداية أن تقف الشرطة بجانبنا لتحمينا، في حين كانت الشرطة السورية تتواجد في المكان من أجل أن تُطلِق النار علينا. ولكنّني أشعر أنّ كل ما فعلناه راح هباءً. يُظهر الناس حُزنهم على حالك وحال بلدك، ويرغبون في المساعدة، ولكنّهم لا يستطيعون فعل شيء.
إسماعيل العبدالله.. عامل إغاثة الذي ذهب إلى حلب الجديدة
يعيش الآن في منطقةٍ ريفية بغربي حلب الذي تُسيطر عليه المُعارضة. وتزوّج بعد فراره من الحصار، ولديه ابنتان صغيرتان. وبعد استراحةٍ قصيرة في تركيا، عاد إلى العمل مع الخوذ البيضاء (الدفاع المدني السوري). ولأنّ منطقته أهدأ من حلب، لذا فهو يُساعد في تعقّب الطائرات والمروحيات، وإزالة الذخائر غير المُتفجرة.
كانت حلب جحيماً، لم أعتقد أنّني سأنجو، ولست أنا فقط، بل كان الجميع مُتشائمين. لقد غادرت في الـ22 من ديسمبر/كانون الأول، وحين وصلت قافلتنا إلى الريف (الذي تُسيطر عليه المُعارضة)، كُنّا أُناساً مُحطّمين، فتفرّقنا. وذهبت إلى تركيا لشهرين أو ثلاثة، إذ كُنت بحاجةٍ إلى بعض الوقت للاسترخاء، والتنفُّس من جديد دون أن أفقد أصدقاء، ودون أيّ شكلٍ من أشكال المُعاناة. كُنت مُصاباً بألمٍ في ظهري وساقي، لذا استغرقت وقتاً طويلاً من التعافي جسدياً أيضاً.
وبعدها عُدت إلى الخوذ البيضاء، لم يكُن قراراً صعباً، إذ شعرت وكأنّني أدمنت العمل الإغاثي. وربما يبدو الأمر مجنوناً ولكنّ هذا هو ما حدث. لأنّ الحياة الطبيعية تختلف تماماً عمّا مررنا به في شرق حلب. لم أجد شيئاً يُناسبني في تركيا، كُنت قد اعتدت على البقاء في حالة تأهُّبٍ كل يوم، وإنقاذ الناس، وتعقُّب المروحيات وقاذفات القنابل. إنّ الحاجة للمساعدة، وفعل شيءٍ من أجل بلادنا، صارت تجري في عروقنا.
وبعد أن كوّنت أسرة صارت الأمور أكثر تعقيداً بالطبع، وأحياناً أشعر بالندم لأنّني لم أُغادر البلاد، وأترك هذه الفوضى، من أجل أن تحيا أسرتي حياةً آمنة وجيدة.
والفتيات والفتية المولودون هنا في المناطق السورية التي تسيطر عليها المعارضة، لا يمتلكن حتى بطاقات هوية.
علاوةً على عدم وجود تعليمٍ أو مدارس أو جامعات أو رعاية صحية. ونحن أُجبِرنا على مغادرة منازلنا، ولأجل ماذا؟ لقد خيّب العالم آمالنا. وأتوقّع أنّ إدلب ستُواجه نفس مصير حلب، ولكن السؤال هنا هو: أين سيذهب أولئك الناس؟
أبو محيو.. مُنسّق المخابز الذي تطارد ابنه قاذفة روسية
يعيش الآن في شمالي سوريا، على مقربة من الحدود التركية وبعيداً عن القتال نسبياً. وبدأ أبناؤه الخمسة في التعافي من صدمة حلب. وهو يُدير أربعة مُخيّمات، تستضيف 2,600 أرملة ويتيم من النازحين.
عقدت قراني على زوجتي الثانية خلال آخر 20 يوماً من حصار حلب. وهي مُمرّضة. وكُنّا نعيش في أوضاع يُرثى لها، ولكنّنا وجدنا السعادة بالوقوع في الحب.
وحين غادرنا، توجّهنا إلى شمالي إدلب بسبب بُعدها عن القصف وقُربها من الحدود التركية. وعانيت أنا وأطفالي من مُشكلات نفسية، وكان علاجنا هو أن نبتعد عن الحرب.
إذ استيقظ ابني حسن، حين كان في السادسة من عمره، ذات مساءٍ وهو يصرخ: "هناك طائرة حربٍ روسية في السماء، ستقصفنا الآن". فذهبت إليه لأُدرك أنّه لا يزال نائماً، وأنّ ذلك كان مُجرّد حلم.
لقد عادوا إلى المدرسة الآن، لكن الذين يبلغون الـ11 والتاسعة من عمرهم لا يزالون في الصف الثاني فقط، لأن مدارس حلب لم تكُن تعمل.
كان العثور على وظيفةٍ أمراً صعباً في السنة الأولى. والكثير من الأشخاص الذين أعرفهم انتهى بهم المطاف إلى السفر لتركيا، أو العودة إلى لمناطق الخاضعة لسيطرة النظام، لأنّهم لم يستطيعوا العثور على وظائف. أتمنى لو أستطيع العودة إلى حلب الحبيبة. لم أندم يوماً على بقائي فيها، وأؤمن أنّني سأعود إليها بمشيئة الله. وأنظر كثيراً إلى صورة منزلنا المُهدّم، حيث قُتِلَ شقيقي ببرميلٍ مُتفجّر. وحين أرى الصور، أشعر وكأنّني أُعيش كل لحظةٍ مرةً أخرى، وأتذكّر كيف كُنّا نتنقّل من قبو لآخر، وكيف اعتدت سماع صوت الناس يصرخون من الخوف أو الإصابات.
أسمر حلبي.. مُدير دار الأيتام الذي جعل الأطفال يتبولون في أكياس بلاستيكية
يعيش الآن في إزمير بتركيا مع زوجته، ووالدته، وابنة أخته التي تيتّمت إبان الحرب. وقد أخرج قرابة الـ50 طفلاً بأمانٍ من حلب. واستقبل للتو مولودته الأولى. ولديه منحةٌ لدراسة إدارة الأعمال، مما يفتح أمامه طريقاً للحصول على الجنسية التركية.
انتشر فيديو لدار الأيتام على نطاقٍ واسع في الأيام الأخيرة للحصار، وسبّب الكثير من المشكلات. واشتبهنا في أنّهم يبحثون عن الأطفال حين بدأوا في تفتيش حافلات الإخلاء، لأنّهم أرادوا اصطحابهم إلى مناطق النظام من أجل انتصارٍ إعلامي، وحتى يتمكنوا من القول إنّهم هم الذين يعتنون بالمدنيين.
فوضعنا الأطفال في عدة حافلات مع بالغين، حتى لا يُسافروا في حافلةٍ واحدة تُمثّل "دار الأيتام"، ويبدو الأمر وكأنّها عائلاتٌ عادية. وكُنت أنا وثمانية أطفال على متن الحافلة الأخيرة. واستغرق الأمر 24 ساعة، ولم يُسمح لأحدٍ بمغادرة الحافلة، لذا كان على الأطفال التبوُّل داخل أكياس بلاستيكية، ولكنّنا عبرنا بسلامٍ جميعاً.
انتقلنا إلى جرابلس، قرب الحدود التركية، وبدأوا في التعافي من الحرب. وكانت أكبر همومهم هي: "نُريد الخروج في نزهة، والسباحة في النهر، ولكنّك لن تسمح لنا بذلك".
وبعد قرابة العامين، ذهب الكثير من الأطفال للإقامة مع أجدادهم وأعمامهم وعمّاتهم. ويحصلون على رواتب من المنظمة لدعمهم، ولا أزال على اتصالٍ بغالبيتهم.
يعيش أخي وأختى في تركيا منذ عام 2014، وأرادت والدتي أن أنضم إليهم، لذا انتقلت إلى هناك في العام الماضي. لقد فقدنا الكثير من أفراد أسرتنا (الوالد وثلاث شقيقات وصهر)، وكان هذا أقل ما أستطيع فعله من أجل والدتي.
وكُنت عاطلاً عن العمل، ولكنّني أمتلك الآن منحةً وتصريح عملٍ في إسطنبول. وهذا يعني أنّ لدي مُستقبلاً، وهدفاً يُمكنني السعي إليه.
وفي ديسمبر/كانون الأول، رُزِقت بابنتي. وهي مسؤوليةٌ ستكون مُرعبةً في حال كُنت لا أزال داخل سوريا. إذ كُنت سأخشى حدوث الأسوأ، مثل إصابتنا بصاروخٍ أو برميلٍ مُتفجّر أو قذيفة مدفعية.
وأنا الآن في تركيا، لذا فأنا سعيدٌ للغاية أنّها هنا. ابنتي اسمها ليانة، وهو الاسم الذي يعني الرخاء والعيش في رغد. وهذا ما نُريده لها. أصابنا الكثير من الحزن في السابق، ونُريد التطلّع إلى المستقبل الآن.
أبو عوض.. السائق المفقود
رغم الجهود التي بذلناها طيلة شهورٍ من أجل العثور على أبو عوض، لم نستطع تأكيد ما إذا كان قد غادر حلب على قيد الحياة، أو نجح في الهرب، أو محل إقامته الآن.
لا شكّ أنّ إحدى صدمات الحروب تكمُن في أنّها تترك الناس وهم لا يعلمون مصير أحبابهم.
وتقول الأمم المتحدة إنّ هناك أكثر من 100 ألف شخصٍ في سوريا حتى الآن تعرّضوا لـ "الاعتقال، أو الاختطاف، أو الإخفاء على يد النظام السوري بنسبةٍ كبيرة، إلى جانب جهات أخرى".