في ذكرى بلوغها العام الأول على مولدها بعد الستين، لم أكن قد بلغت عامي الخامس في مثل هذا اليوم عام 1958، حيث كان عمري حينها حوالي أربعة أعوام وسبعة أشهر، لم أكن أدرك أبعاد ما يدور من حولي من أحداث ولكن أعرف ماذا يحدث وأفهم فقط معنى الأحداث.
وها أنا ذا أقوم بمحاولة لاستجلاب ذاكرة طفل تجاوز الخامسة والستين.. وهذه الأحداث حقيقية تسامعتها وتم مزجها بالخيال
فقد كان الوقت ضحى، وكثرت الحركة هنا وهناك وتعالت النداءات بين نساء الشارع يتدافعن نحو بيت جدي الحاج عبدالمقصود وتهرول الجدة سارة -شقيقة جدي وهي قابلة القرية التي تستقبل مواليدها- مندفعة فقد داهم المخاض عمتي سعدية وهي عند والدتها.. وانتشرت نسوة العائلة كل في مهمتها، هذه توقد النار لتدفئة الماء لزوم الميلاد، وهذه تعقم السكين بغليه في الماء لقطع الحبل السري، وهذه تحضر ملابس المولود وهذه تحضر البصل ليستنشقه الطفل فور مولده، وهؤلاء النسوة كبار السن التففن حول العمة سعدية ليساعدنها أثناء حدوث الطلق لتوجيهه بشكل صحيح حتى ينزل المولود في أقصر وقت وبأقل عناء.
وتعالت صرخات العمة بأعلى صوتها طلباً للنجدة مما هي فيه (الحقوني.. أنا بأموت.. هتفرتك.. معنتش قادرة خلاص.. خلصوني)، وتحاول النسوة حولها أن يطمئنّها ويشعرنها بالمساعدة (ههيييييييييه.. ههييييييييييه.. يالله يابتي.. خلي الطلق لتحت.. علشان ربنا يسهل ويجبرك.. اكتمي صوتك يالله.. إحنا معاكي أهووه.. ههيييييييييه.. ههييييييييييه).
فجأة انقطع صراخ العمة والههيييييييييه، ليرتفع بكاء مولود تصاحبه همهمات الحمد والشكر لله فقد نزل المولود، وتحركت خلية النحل المساعدة للقابلة بالماء الدافئ والبصل والسكين والملابس لإنهاء إجراءات فصل المولود عن أمه.
وحيث يتابع الرجال عملية الميلاد أمام باب الغرفة الموارب -لستر من بالداخل من النساء- فجأة انقطع صوت قراءة (سورة يس) سجد جدي وعمي رياض وعمي ياسين على الأرض يهمهمون: الحمد لله والشكر لله فألقيت وجهي على الأرض مثلهم وأنا لا أدرك ما يفعلون، ارتفعت أصواتهم ألف حمدا لله على سلامتكي يا سعدية، هه؟؟ بشرونا ولدت إيه؟
تقدمت الجدة تحمل المولودة تهنئ الحضور ألف مبروك الحمد لله ربنا رضاها بنوتة عسل تخاوي أخويها محمد وكمال.
حمل الجد المولودة بين يديه يسمي الله يكبر ويؤذن في أذنيها وهو يقول: الحمد لله الحمد لله البنت دي وشها خير وشها وش السعد -إن شاء الله- وشها كله براءة وحياء، من أول حملها وأمورها سهلة وميسرة وكل أمورها يسر في يسر نسميها إن شاء الله يسر يعني يسرية علشان هي بنت.
كنت حينها أصغي لكل كلمة وأسجل كل حركة في ذاكرتي البسيطة التي لم تحتفظ بكل ما دار حولي ولم أكن أدري حينها أني جزء من هذا الحدث، وأن القدر يصنع مستقبلي ويدبر أمري الذي لم أعه.
فقد أنار وجه مولودتي الوجود وأشرقت شمس الشموس وسرى دفء الحياة في أوصالي وأوصال من حولي رغم برودة الشتاء وازدانت السماء بغمامات مضيئة بأشعة الشمس ابتهاجاً بمولد يسريتي.
تدافعت الأيام ومرت السنون وإذا بالقدر العظيم الرضي يمنحني هذه المولودة، ليمنحني البهجة والسرور والسعادة والحنان والحب فقد منحنا أماً بعد أمي وأختاً صنو أخواتي، منحني يسريتي زوجتي حبيبي شقيقة دربي ورفيقة أيامي، تفرح بفرحي وأسعد بسعادتها، تتألم بألمي وأمرض بمرضها، تقف في ظهري وتشد أزري، فتقيل عثرتي وتسدد رأيي، فهي سكني ومودتي، ورحمة الله إليّ وهي ستري وغطائي وأرضي وسمائي وأنا لها أرض وسماء،
عشنا معاً أحداثاً عظيمة دمجتنا معاً حتى صرنا كياناً واحداً؛ هي أنا وأنا هي، وانسجمت حياتانا فمن لا يقر أني هي وأنها أنا فقد ظلمنا.
وللحديث بقية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.