عندما نتابع قصة قاتل مضطرب أو متسلسل ارتكب أكثر من جريمة لها الطابع نفسه، فعادة ما يكون أكثر ما نتابعه هو جهود أجهزة الأمن التي توقع بالجاني ببراعة وبالاستعانة بأحدث الوسائل؛ لكن الأمر هنا يختلف.
دينيس ريدر قاتل متسلسل أمريكي، مهووس جنسياً، قتل 10 أشخاص ما بين أعوام 1974 و1991 وظلَّ خارج دائرة الشكوك مدة 30 عاماً تقريباً، ولم يكن محل أي شك خلالها. ولكن شيئاً ما حدث عام 2004، جعل دينيس ريدر يقرر أن يلعب مع السلطات لعبة كانت هي الأخيرة في حياته الحافلة بالدم والهوس والضحايا.
رجل الأسرة والأب المسالم.. الذي عذّب الحيوانات!
ولد دينيس ريدر Dennis Rader عام 1945 في ولاية كانساس الأمريكية، وعاش طفولة عادية من دون أية نوازع أسرية مُدمرة، ولكن كانت له بعض الميول الشاذة، تدفعه لربط وتعذيب الحيوانات الصغيرة.
مع الميول الشريرة التي لم تتطور إلى أية جرائم بعد تخرج في المدرسة الثانوية، ثم التحق دينيس ريدر بالقوات الجوية الأمريكية، وسافر في عدة جولات عسكرية إلى كوريا الجنوبية وتركيا واليونان، وقاعدة عسكرية في ولاية ألاباما بين أعوام 1966 و1970.
بعد قضاء خدمته العسكرية التحق دينيس بكلية (إلدورادو) بولاية كاليفورنيا، وحصل على شهادة في الإلكترونيات عام 1971، العام الذي قابل فيه (باولا ديتز)، التي سوف تصير لاحقاً زوجته وأم أولاده.
دينيس ريدر والجريمة الأولى.. وظهور الهوس الجنسي
بعد زواجه، وبعد أن صار أباً لولد وفتاة صغيرين -وهو أحد أهم أسباب ابتعاد الشبهات عنه كرجل أسرة- التحق ريدر بوظيفة مرموقة وقتها في إحدى شركات الأمن وأنظمة الإنذارات، بمثابة فني تركيب وصيانة، ولكن في العام 1974، وفي إحدى اللحظات العشوائية أثناء وقوفه أمام منزل إحدى الأسر في ولاية ويسكنسن، قادته رغباته المهووسة إلى قتل أفراد أسرة المدعو جوزيف أوتيرو، وهم زوجته وابنه وابنته، خنقاً.
لاحقاً اعترف دينيس ريدر أن هدف الجريمة البشعة هو استحضار الشهوة الجنسية عند تعذيب وتقييد ضحاياه، بخلاف الهوس الجنسي بملابس النساء الداخلية، وهو ما فعله مع الابنة الصغيرة، البالغة من العمر 11 عاماً، قبل شنقها في قبوٍ المنزل.
تحدّى BTK للشرطة والصحافة.. غرور أم ذكاء شديد؟
بعد ارتكاب جريمته الرباعية الأولى، أرسل دينيس ريدر خطاباً موجهاً إلى الشرطة في الولاية ويسكنسن، يعترف فيها بمسؤليته عن مقتل عائلة أوتيرو، وتركه في أحد الكُتب داخل مكتبة عامة، وسرعان ما كان الخطاب في حوزة الشرطة والصحافة، وقد كتب الخطاب بأسلوب ركيك مفكك، قصده ريدر، وذكر فيه:
"من الصعب التحكم في نفسي، ستعتقدون أنني مجرم مجنون له تعلق جنسي شاذ"
وذكر أيضاً واحدة من أكثر المعلومات شهرة في حياته، ألا وهو جملته الشهيرة: عندما أقتل سوف أستخدم كود BTK، وهي الأحرف الأولى من جملة:
"Bind them, torture them, kill them" أي:
"اربطهم، عذِّبهم، اقتلهم" والتي أخذت الأحرف الأولى منها للترميز والإشارة إلى دينيس حتى اليوم، باسم القاتل أو الخنّاق بي تي كي BTK Killer.
بعد الجريمة الأولى بحوالي 4 أشهر قَتل دينيس ريدر امرأة تدعى كاثرين برايت، بعد أن تربص لها لدى عودتها إلى منزلها، وقام بقتلها طعناً ثم خنقاً بعدما مارس شهوته الشاذة معها، وعندما كاد أن يكتشف شقيق الضحية الجريمة أطلق ريدر عليه النار مرتين، ورحل.
الشقيق الذي كتبت له النجاة أدلى بأوصاف ريدر، وبرغم ذلك لم يتم الإيقاع به، ولكن ولاية ويسكنسن اجتاحها الرعب وقتها، بعدما انتشرت أخبار خطاباته وتحدياته للشرطة في الصحافة، ونشرات الأخبار من دون أية نتائج توقع به.
5 ضحايا آخرون.. والقضية تبرد تماماً
بعد 4 أعوام من الجريمتين الأوليين هدأ نشاط دينيس بشكل تام، تفادياً لأية تحقيقات لا تزال مفتوحة. وفي العام 1977 عاد دينيس ريدر للقتل مرة أخرى، وكانت هذه المرة الضحية هي شيرلي فيان، بعد عودتها من منزلها، لتجد القاتل في انتظارها، مستغلاً معرفته الكاملة بكيفية إبطال وتعطيل أجهزة الإنذار، وحتى قطع أسلاك الهواتف، تفادياً لاتصال الضحايا بالشرطة في أي لحظة.
على مدار 14 عاماً قتل دينيس ريدر 4 ضحايا، جميعهن من النساء، واستمر في ارتكاب أفعاله الجنسية المنحرفة أثناء أو بعد جرائمه، والأكثر غرابة هو تواصله المستمر مع الشرطة عبر خطابات مجهولة، يشرح فيها أسباب أو دوافع أو ملاحظات عن الجرائم أو حتى (تذكارات)، جمعها ريدر من مواقع جريمته، ولكن سيل الجرائم توقف فجأة عام 1991 بمقتل الضحية الأخيرة دولوريس ديفيس. وبموتها اختفت كل أنشطة إجرامية لقاتل BTK ولمدة 14 عاماً، أي بمصطلح الجهات الرسمية أصبحت (قضية باردة).
30 عاماً.. التحقيق الصحفي الذي فتح أبواب الجحيم
في عام 2004 نشرت بعض الصحف المحلية في ولاية ويسكنسن تحقيقاً مطولاً حول قضايا القاتل المتسلسل BTK، بمناسبة مرور 30 عاماً على رحيل عائلة أوتيرو، أولى ضحاياه، مصاغة بغضب مكتوم تجاه السلطات التي -على حد وصف الصحافة حينها- تهاونت في الإيقاع بالشيطان الذي روع ويسكنسن.
وكانت سلسلة التحقيقات هذه إيذاناً ببداية النهاية لدينيس ريدر، الذي أيقظت التحقيقات في أعماقه القاتل النائم، محب الشهرة، الذي لطالما حيّر السلطات والصحافة وسخر منهما، فبدأ في إرسال مجموعات من الأدلة والتذكارات والملاحظات التي تشير إلى ارتكابه الجرائم مرة أخرى، ومن بين ما أرسله ريدر للصحافة والشرطة من إحدى المكتبات العامة قرص ذاكرة floppy disc بمثابة اختبار، لمعرفة إذا ما كانوا يستطيعون تتبع الجهاز الذي استخدم فيه.
باستخدام هذا القرص ودمج الأدلة، قادت التحقيقات الشرطة إلى مكان الكنيسة التي اعتاد دينيس الذهاب إليها، وبمراقبته تطابقت الأوصاف لديهم مع ما جُمع عنه قديماً، وقبض على دينيس ريدر، والذي لم يعاند الأقدار كثيراً، واعترف بجرائمه وحوكم، وحكم عليه بعشرة أحكام مؤبد، مدتها 175 عاماً من دون إمكانية إطلاق سراح مشروط.
قاتل BTK في السينما والتلفزيون
لا شك أن هذا القاتل شديد الخطورة والذكاء أشعل مخيلة الكُتاب ومنتجي السينما، فكتب عنه كاتب الرعب الأمريكي الشهير ستيفن كينج قصة قصيرة بعنوان A Good Marriage، ضمن مجموعة قصصية بعنوان Full Dark، عام 2010، والتي تحولت إلى فيلم عام 2014 بالعنوان ذاته A Good Marriage
ولكن البورتريه الأقرب لمدى هوس دينيس ريدر الحقيقي والمخيف قدّمه مخرج روائع الجريمة ديفيد فينشر، في مسلسله الشهير Mindhunter، الذي شاركت في إنتاجه وعرضه Netflix.
المسلسل لم يتمحور بالكامل حول دينيس ريدر، ولكنه قدم ملامح عن جرائمه تجري أحداثها بالتزامن في الخلفية مع التحقيقات الرئيسية في الموسمين الأول والثاني، وهو ما زاد الغموض حول شخصية دينيس ريدر، ودفع الكثير من النقاد للإشادة بالتناول المقتضب وغير غير التقليدي لحياة دينيس ريدر، ومدى شذوذ أفعاله، ومدى هوسه بالشهرة وبتحدّي السلطات.